لهواة النوع، بدا مثيراً الخبر الذي انتشر قبل أيام.
كارول سماحة تقدم، دفعة واحدة، 12 أغنية جديدة من قصائد محمود درويش، في ألبوم تسميه “ذهبياً”. يُحاط الألبوم بالغموض، جرياً على العادة المتبعة في التسويق، فلا يعود لنا حق معرفة القصائد المنتقاة والتي يحتمل أن نكون قد حفظناها مسبقاً ولنا معها علاقات حميمة، ولا الملحنين، ولا شيء، مع أن أيقونة مثل الشاعر الفلسطيني حين تقترن بعمل فني، لن يكون كافياً ليشفي غليلنا بوستر المغنية فاتحة ذراعيها على اتساعهما.
حقنا أكثر. هذا محمود درويش. حين تنال فنانة حقوق تأدية 12 قصيدة له، بعد أكثر من 14 سنة على غيابه، فمن المفترض أنه حدث ثقافي من واجب المعنيين على العمل أن يطلع الناس مسبقاً على تفاصيله، وعلى الجهة التي أعطت سماحة حقوق أدائها، وبناء على ماذا، ولماذا هي بالتحديد؟ لأنه، تكراراً، هذا محمود درويش. درويشنا.
لم يحدث شيء من هذا. ظهرت يوم الجمعة، فجأة، الأغنية الأولى في فيديو كليب نشرته كارول على منصاتها ونال مشاهدات عالية منذ ساعات العرض الأولى. من دون قفازات لا داعي لها، الفيديو، بعناصره كافة، رديء. الموسيقى لا جديد فيها، غير مستساغة، وتذكر بعد ثوانٍ من بدايتها بلحن مسلسل أرطغرل التركي. العالم الذي تعيشه المغنية ومن معها في الكليب أقرب إلى خيال علمي، ديستوبيا معلوكة لما بعد الحرب العالمية الثالثة، أكثر مما هو أرض الشاعر وملعبه العربي الأول. المشهد برمته تجاري، عالمي مخفف من أي قضايا محلية. إعلان لمحل زهور وشوكولا وعواطف في ناطحة من زجاج.
لا بأس، مع ذلك. الفن ذائقة شخصية. والعالم يتغير، نواسي أنفسنا. وفي أي حال، لن ينتقص من صورة محمود درويش أغنية تبدو محض تجارية من دون زمان أو مكان، تتوجه للإنسان بشكل عام، وهو أسوأ نوع للتوجه بشكل عام، حيث تُسطح القضايا الحقيقية وتظلم باسم السلام العالمي، والعدالة الشاملة، والحب للحب، وحماية دب الباندا من الانقراض.
أتمّ الشاعر رحلته لحظة موته. بات منذ تلك اللحظة خالداً في ما كتب، وفي ما ترك من أثر ولغة في النفوس. الأغنية هذه، “ستنتهي الحرب”، لن تكون أكثر من عمل آخر لا ذنب لمحمود درويش، ولا لشعره، به. ترمى على السوشال ميديا كما غيرها وتجد من يدمع لعمق معانيها. الدنيا أذواق.
لكن المشكلة في مكان آخر. القصيدة، “ستنتهي الحرب”، رديئة رداءة لا يمكن تخطيها. هذا ليس صوت محمود درويش الذي قرأناه وحفظناه وعرفناه. هذه ليس لغته الحلوة.
تقول كلمات الأغنية (إضافة إلى ترداد لفظ الجلالة، الله، 66 مرة):
ستنتهي الحرب ويتصافح القادة
يقولون في بلادنا يقولوا في شجن
عن صاحبى الذي مضى
وعاد في كفن
وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشهيد
وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب
وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل
لا أعلم من باع الوطن،
ولكنني رأيت من دفع الثمن.
هكذا كتب محمود درويش؟ بهاتين المباشرة والركاكة؟ بهذا التفكك في السياق والمعنى؟ درويش الشغوف بلغته حد الوسواس القهري، مهووس بمخارج الحروف، بموسيقاها، بالحرفة التي أجادها وتفوق بها، يقول “تلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب”؟ هل حقاً كتب يوماً جملة مثل “ستنتهي الحرب ويتصافح القادة وتبقى تلك العجوز تنتظر ابنها الشهيد”.. هذا محمود درويش؟ في بداياته ربما؟ لا. بداياته كانت “سجلّ أنا عربي”. قصيدة تحولت إلى نشيد على الرغم من نفوره اللاحق منها، لأنه تطور ونضج وتغير، نفور لا ينفي جودتها الأصلية، هذه الجودة التي ميزته بصفته كاتباً لن يكتب، في أسوأ أحواله، شعراً رديئاً. على الأقل ليس عبارة مثل “أولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل”..
يكفي وضع عبارة “ستنتهي الحرب” في أي محرك بحث أو منصة سوشال ميديا حتى تنفجر البطاقات الملونة، عليها صورة محمود درويش مع كامل “القصيدة”.. ليس كلها. ينقص منها سطران من الوسط: “يقولون في بلادنا يقولوا في شجن.. عن صاحبى الذي مضى.. وعاد في كفن”.
هذان السطران لمحمود درويش، مقتطعان من سياقهما العام، من قصيدة “وعاد.. في كفن” في ديوان أوراق الزيتون (1964). درويش استخدم في قصيدة التفعيلة تعبير “يحكون” وليس “يقولون”. لا همَّ. باقي كلمات الأغنية، قبل هذين السطرين وبعدهما، لا وجود لها في هذه القصيدة، كما أنها ليست موجودة في الجزئين الأول والثاني من ديوان محمود درويش. ليست موجودة في قصائده على محركات البحث. أين هي إذن؟ الباقي من القصيدة موجود فقط في البطاقات-الصور المنتشرة بالآلاف على السوشال ميديا. تلك التي تأتي كل واحدة بتصميم أسوأ من الآخر، مع توقيعه، هو الذي لم يعد بيننا لينفي. ثم أنها ليست منسوبة له وحده. يشاركه في حقوق القصيدة، مناصفة تقريباً، جبران خليل جبران شخصياً. ومع أنهما ليسا يتنازعان عليها الآن حيث هما في السماء، وقد يكونان منشغلين بحوار أرقى، فلا شيء على الأرض يثبت، لحسن حظيهما، أنها لأي منهما.
لا مصدر موثوقاً يؤكد أن القصيدة لمحمود درويش، ولا كارول سماحة ولا الجهة المسؤولة عن إرث محمود درويش، كائناً ما كانت، تبرعتا بأن تشرحا لنا سر هذا الخلط بين قصيدتين. بناء على أي مذهب فني تم اقتطاع جزء من قصيدة ودمجها في ثانية مجهولة الشاعر؟ بناء على أي شكل من أشكال العيب تم التلاعب بلغة محمود درويش هنا؟ لا نعلم.
مع الاحتفاظ بهامش الخطأ، يمكن لهذه السطور أن تجزم أن محمود درويش لم يكتب “ستنتهي الحرب”، وأنها واحدة أخرى من آلاف المقولات التي تنسب زوراً للشاعر وترمى على الإنترنت بكل ما استطاع الفوتوشوب من ورود وقلوب ودموع وقباحة لا تحتمل. ليست له.
الأغنية صورة سوشال ميديا أخرى، مغنّاة هذه المرّة. هذا مؤسف، لأن الآلاف بدأوا من الآن يكيلون مديحاً للأغنية والمغنية. يظنون أن محمود درويش كتب حقاً مثل هذا الشعر. ليس بمثل هذه الخفة يُعامل محمود درويش. ليس مفترضاً به، على الرغم من رحيله، ألا تكون له الكلمة الأخيرة في ما كتب. محمود درويش ليس قامةً عربية وعالمية أدبية عظيمة فحسب. محمود درويش أبعد من ذلك. درويش كاتب سيرة فلسطين وكاتب سيرة اللغة العربية في القرن العشرين. درويش شكّل لغتنا. كتبنا نحن الذين نحب الكلمات. علّمنا لغتنا. علّمنا كيف نكتب. محمود درويش معلّمنا. كان أحسن لو يُترك هناك، يغني قصائده الأخيرة بصوته مع الثلاثي جبران، لو ترك لدواوينه الصادرة عن دار رياض نجيب الريس، للمهرجان الذي حضره يوماً أبو عمار ورفاقه وألقى فيه قصيدة مديح الظل العالي.. في النواح على بيروت وفي حبها الأبدي. كان أحسن لو بقي في الذاكرة كما هو. كان أحسن لو ترك لمارسيل خليفة. هذان كانا ثنائيين. كانا صديقين حميمين. واحد يكتب والثاني يلحن ويغني. يصنعان معاً ذاكرة وحنيناً وقضايا وعمقاً. محمود درويش كتاب مفتوح على تاريخ العرب الحديث وعلى رقّة اللغة وجمالها معاً. على الأدب كأدب. ليس هكذا يعامل، ليس لأجله، لأن لا شيء الآن سينتقص من اسطورته، بل لأجل لغتنا.. لأجل هذه الحكاية المديدة.. لأجلنا.
فقط لو أنه تُرك لنا، نحن الذين نعلم من هو وكيف نقرأه ونسمعه ونراه. نعلم ماذا ترك فينا. لو تُرك لشأنه وشأن لغته الطرية. لو، فقط، تُرك كما شاء أن يُترك.
“المدن”