تقول حنة آرنت قد تبدو خرافة قائمة على الوهم، إننا نستطيع صنع شيء ما في مجال الشؤون السياسية، كصنع مؤسسات أو قوانين مثلاً، أو أن نجعل البشر أحسن أو أسوأ، هكذا تبدو مشكلة فواعل المؤسسات في كيانات بعد الاستعمار، أو ربما في مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث ثمة جنوح حقيقي عن تكوين مؤسسة يمكن أن تكون قادرة على أن تحقق خصائص وجود قوي، يكفل قيم المعاني العامة والخاصة، كما الكرامة للرعايا الذين ينتمون إليها، لا أن يبقى وجودهم الهش طرياً متشققاً يعاني من فقدان الثبات، ليبقوا في رحلة بحث عوليسية عن معنى الوطن والاستقرار.
للخيمة في وعينا حضور قارٌ لا يغادرنا، لا نكتفي منها، ولا تكتفي منا، هكذا تبدو قدراً، فحينا قد تكون بفعل الإنسان، وحينا قد تكون بفعل الطبيعة، وفي الحالتين يبقى الإنسان أسير المؤقت والطارئ، يبحث عن خلاصه، فالخيمة تعني ذلك الارتحال الذي يجعل الوعي مجمداً، هكذا تبدو أقدار من نجوا من الزلزال، تتنازعهم مشاعر الامتنان، كونهم منحوا فرصة ثانية للحياة، مع الكثير من الحزن على من قضوا، لكن يبقى الخوف الذي يتعلق بالخيمة يطاردهم حتى مع محاولتهم تجاوزها.
مفهوم الخيمة – لدى الفلسطيني والسوري وغيرهما من الذين عانوا من ارتحالات قسرية – يبدو جزءاً من تعريفهم، كما هويتهم التي تعلق بهم – فهي تتقاطع مع لجوء مركب، وارتحالات لا متناهية، لقد أضحت الخيمة ثقافة في واقع عربي لا يبدو قادراً على تخليص نفسه من الاعوجاج، فثمة دائماً أنصاف الأشياء، فالمنظومات والأنظمة كما المؤسسات تجعل العربي غير مكتمل، هو مختطف من قبل أطراف لا يهمها سوى السلطة. العربي يعيش في نصف وطن، وإذا وجد عملاً فعمله بالكاد يؤمن نصف قوته، في حين أن حريته لا تعدل ربع حرية، يعاني في تأمين أساسيات الحياة.. هو يكمن في أوطان لم تتمكن يوماً من أن تكون جزءاً من وجود المؤسسة (النموذجية) التي تبدو بعيدة عنه، هي غير قادرة على أن تكمل نقصه؛ لأنها تريد أن تكمل فسادا لا ينتهي.. الدولة في وعي العربي أو لدى البعض، ليست سوى كيان يحتمل أن يكون عبئاً لا عوناً أو ملاذاً، نفتقد ذلك الاحتضان لمعنى أن تكون منتمياً لوطن، ومن هنا يمكن تفسير هذه الذوات التي تبحث عن مستقر لها في أوطان الآخرين، كي تتجاوز الخوف والقمع والجوع والمهانة، وهناك قد يقسو الآخرون، وقد تقسو الطبيعة التي قد تنهي هذا الاستقرار الهش. تضيف الطبيعة لجوءاً مركباً، إذ يتحول الشتات إلى كابوس طويل، على الإنسان أن يعيد تأثيث وعيه كي يفهم تداعيات هذا الكابوس، أو أن يتجاوز الصدمة التي تبدأ عندما تعي بأنك أمسيت للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة مطاردا في المكان، وهنا تتشكل أسئلة تقتص من الوعي، كيف يمكن لنا أن نتملك عالماً أفضل؟ وكيف يسهم شيء من سوء الحظ والقدر في تكوين الألم؟ أم أنها لعنة أن تنتمي إلى هذا المكان، أو ذاك، قد تبدو مفاهيم الأشياء غير مستقرة، فثمة دائما تساؤل لدى الفلسطيني عما ارتكبه من ذنب كي يبقى جزءاً من هوية الخيام، أو ومن وطن بات أقرب إلى حارات ضيقة، في حين أن السوري بات يعيش فراغاً من نوع آخر، فثمة من يطارد أحلامه، يعبث بها، لا يجد جداراً يركن إليه، لقد بات يقترب من مناخات محمد الماغوط حين قال:
تحت مطر الربيع الحار
أنتقل من مدينة إلى مدينة
وحقائبي مليئة بالجراح والهزيمة
تكمن حقائق هذا التعقيد بما يكمن من خلل في تكوين هذا الوجود الهش لكيانات لم تتمكن من خلق معنى لوجودها، فثمة دائماً في تعريفنا أجزاء تنتمي لمقولة الإقصاء، كيانات يقتص منها تعريفها لذاتها، هذا التجزؤ على مستوى الألم، ينتمي إلى شيء من القدر في أن توجد في المكان الخطأ، أو التوقيت الخطأ، لقد بات غياب معنى النظام عن هذا الوجود أمراً لا خلاص منه، نشبه البيوت التي انهارت كون هذه البيوت جزءاً من عالم لا يستقر، هو كثير الانزلاق، وربما علينا أن نأخذ بمقولة غسان كنفاني حين نصحنا بأن لا نحاول أن نتشبث بهذا العالم لأنه أقرب إلى طبقة جليد، بل علينا أن نتعلم الانزلاق، والتزحلق.
هكذا يتشكل معنى الإنسان العربي الذي على الرغم من انتمائه لأوطان يفترض أن تمارس وظيفتها، ونعني الاحتواء، غير أنها تصرّ دائما على الخذلان، هكذا تبدو علاقتنا بأوطاننا معقدة، لا توجد مصالحة، إنما فقط ذلك الإحساس المعقد بالانتماء الذي ينتج عن تكوين ذكريات في وطن شهد وجودنا الأول، فتبدو أقرب إلى نوستولجيا ساذجة، بيد أن المستقبل مفتوح على التهديد الدائم. تتشكل ملامح عوالمنا من اتصالات لا تبدو عادية مع الطبيعة التي تشاركنا صنع الألم، فثمة على شواطئ البحر، وفي أعماقه الكثير من الكيانات التي استلبها اللجوء، كما البرد والأمطار والثلوج، وأخيرا تلك الاهتزازات غير المتوقعة، فالأرض تضيق بالألم، تستجلبه، وتحيطه، تخضعه لقوانينها؛ لهذا لا يبدو العالم عادلاً حتى حين وزع حظنا من هذه الأرض، إذ يتنازع الفلسطيني أرضه مع العالم برمته، والسوري أصبح غريباً عن الرحم الذي وجد منه، فالنبذ بات لعنة لا تنتهي، فلا عجب أن يتشح هذا الوجود بهالة العذابات… كيف يمكن أن يجد هذا الوطن الممتد صيغته النهائية ليكون أقرب للحضارة أو النظام من الفوضى؟ أين يمكن أن نجد حين تقسو الطبيعة كيانا قوياً نلتجئ إليه؟ هل يبدو العالم العربي أقرب إلى تحقق مفاهيم نظرية الفوضى التي تتميز بسمتين – حسب ليونارد سميث ـ ونعني الحتمية، ولا الخطية، فثمة نوع من الحتمية المطلقة للألم في عوالمنا، في حين أن لا الخطية تكاد تكون جزءاً من كيانات غير قادرة على التقدم، فثمة دوما إكراهات طارئة، أو التواءات تجعل الحياة أكثر صعوبة، فثمة نقص في التنظيم والتخطيط، كما عدم استعداد، لا شيء يسير كما يفترض، ولا حياة تستقيم كما يفترض.. فقط الانتظار، ولا شيء آخر سوى شعوب الخيام كما يقول محمود درويش.
كاتب أردني فلسطيني
“القدس العربي”