ليس صحيحاً أن الحربين العالميتين الأولى والثانية وضعتا حداً للسياسات الإمبريالية، وإن أسقطتا إمبراطوريات عدة في أوروبا وآسيا. الصحيح أن الإمبرياليات الجديدة خلعت الثياب التاريخية الملوثة بالدم وارتدت ثياباً جديدة براقة من دون التوسع على الأرض. سلاح الاتحاد السوفياتي كان الأيديولوجيا والأحزاب الشيوعية في العالم. سلاح أميركا كان ولا يزال الدولار وشعار الديمقراطية الليبرالية. والصحيح أيضاً أن مرحلة التراخي على قمة العالم ثم مرحلة العودة إلى الصراع الدولي بين أميركا والصين وروسيا سمحتا لقوى إقليمية متوسطة وكبيرة بالاتكال على تاريخ قديم أو على خرافات تاريخية لإقامة نوع من “الإمبرياليات الإقليمية”.
فعلى مدى عقود، والعالم العربي يواجه مشروع “إسرائيل الكبرى” ويعيد التذكير بأحاديث الصهاينة المتشددين عن “أرض إسرائيل: من الفرات إلى النيل”. بعض ذلك كان وهماً صهيونياً، وبعضه الآخر كان وهماً عربياً. فلا إسرائيل تملك القوة البشرية والإمكانات لإقامة “إسرائيل الكبرى” واحتلال الأرض العربية من الفرات إلى النيل، ولا هي تمكنت حتى من الحفاظ على كل الأراضي التي احتلتها في سيناء والجولان والضفة الغربية وغزة خلال حرب 1967. وما تحاوله اليوم بدعم أميركي، كالعادة، هو التوسع في العمق الاستراتيجي من دون احتلال الأرض عبر علاقات إقليمية قديمة ودولية قديمة مع أميركا وفرنسا وبريطانيا، وجديدة مع روسيا والصين، و”اتفاقات أبراهام” مع الإمارات العربية والبحرين والمغرب والسودان إلى جانب “السلام” مع مصر والأردن و”اتفاق أوسلو” مع منظمة التحرير الفلسطينية وعلاقات “سرية” مع عدد من الدول العربية.
لكن القوتين الإقليميتين اللتين تحاولان تحقيق أحلام قديمة هما إيران وتركيا. شعار إيران التي يحكمها الملالي هو عملياً: جمهورية إسلامية وإمبراطورية فارسية، فهي تبني قوة عسكرية كبيرة انتقلت، كما قال رئيس أركان الحرس الثوري اللواء محمد باقري، “من الاستراتيجية الدفاعية إلى الاستراتيجية الهجومية”. وأهم “إنجاز” لها، بحسب صحيفة “كيهان” المقربة من المرشد الأعلى علي خامنئي، هو “إنشاء محور المقاومة والحفاظ عليه”. أين؟ في اليمن عبر الحوثيين، والعراق عبر فصائل “الحشد الشعبي”، وسوريا عبر الحرس الثوري، وفصائل عراقية، و”حزب الله” اللبناني، ولواء “زينبيين” الباكستاني، ولواء “فاطميين” الأفغاني، ولبنان عبر “حزب الله”. ولها، بحسب مسؤول كبير “أهداف ثورية ومصالح قومية” ترسم سياستها الخارجية لتحقيقها.
وشعار تركيا بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان هو “العثمانية الجديدة” والعودة إلى فتوحات ألب أرسلان وعثمان بن أرطغرل لتأكيد ما سماه “قرن تركيا”. ولتركيا اليوم سبعة ألوية عسكرية نظامية و49 قاعدة عسكرية في شمال سوريا إلى جانب ميليشيات تابعة لها، ومع 200 دبابة و400 ناقلة جند مصفحة. ولديها في العراق 80 مركزاً عسكرياً إلى جانب قواعد عدة بينها قاعدة “زليكان” في نينوى، ولها قوات نظامية ومرتزقة من الميليشيات في ليبيا، فضلاً عن أن وزير الدفاع الجنرال خلوصي أكار أعلن أن بلاده قادرة على حماية مصالحها في “الوطن الأزق”، أي في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود وبحر إيجة.
والمفارقة أن جمهورية الملالي ترفع شعار: لا للإمبريالية الأميركية. وهو أيضاً شعار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل الهجوم على أوكرانيا ومعه وبعده، لكن المشكلة في طموحات إيران وتركيا هي ضعف الأوضاع الداخلية. طهران تواجه أزمة اقتصادية عميقة إلى جانب العقوبات الأميركية والأوروبية، وتحاول قمع “ثورة امرأة، حرية، حياة” التي اندلعت قبل أشهر ضد فرض الحجاب على النساء، ثم طرحت شعار “إسقاط النظام” و”الموت للديكتاتور”. وتركيا في أزمة سياسية أعمق من الأزمة الاقتصادية، وقد كشف الزلزال الأخير ضعف استعدادها للكوارث وإدارتها لها، وللمرة الأولى يبدو أردوغان مهدداً بالسقوط أمام مرشح “طاولة الستة” المؤلفة من أكبر ستة أحزاب معارضة أقواها حزب “الشعب الجمهوري” العلماني المتمسك بتراث مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، فضلاً عن أن إيران خسرت منذ سيطرة الملالي بعد الثورة على الشاه ثمانية ملايين شخص غادروها إلى الخارج ويمثلون 10 في المئة من السكان بينهم أربعة ملايين يحملون مؤهلات علمية عالية. إلى أين ذهب هؤلاء؟ لا إلى الصين وروسيا والهند بل إلى أميركا وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.
ولا أحد يعرف كيف تنتهي لعبة “الإمبرياليات الإقليمية” وسط تنامي الصراع في لعبة “الإمبرياليات الدولية”.
“اندبندنت”