بتاريخ 17 تموز/يوليو 2014 أسقط صاروخ روسي الصنع أطلقته جماعة مسلحة خاضعة للسيطرة الروسية في شرق أوكرانيا الطائرة المدنية الماليزية، ما أسفر عن مقتل جميع من كانوا على متنها وعددهم 298 شخصا بينهم 80 طفلا. المخرجة الأوكرانية مارينا جورباخ لم تنس هذا التاريخ، لأنه يصادف عيد ميلادها الـ33، وهذا اليوم المشؤوم هو نقطة البداية لفيلمها الأخير «كلوندايك». تروى القصة من خلال عيون (إيركا) و(توليك) أوكسانا تشيركاشينا وسيرجي شادرين، وهما زوجان أوكرانيان ينتظران بفارغ الصبر ولادة طفلهما الأول، ويعيشان حياة منعزلة في إقليم دونيتسك المتنازع عليه. في الوقت الذي تقترب فيه الحرب عندما يتم إسقاط رحلة الخطوط الجوية الماليزية رقم 17 وتحطمها بالقرب من منزلهما. وقبلها تنفجر قنبلة تاركة أثرها في جانب المنزل.
ساحة حرب
في المشهد الافتتاحي نشاهد الزوجة إيركا وهي تنفض الغبار عن غرفة المعيشة المدمرة، ثم تتوجه إلى الحظيرة لتحلب بقرتهم الوحيدة. يتم التصوير بأسلوب هادئ، ما يجعل تلك الأحداث المهمة تبدو حقيقة واقعة، وتختلط مع لقطات وثائقية فعلية.
تمهد اللقطة الافتتاحية الطريق للأحداث التي تقلب حياة الزوجين توليك وإيركا تماما، حين يغيب السلام وتحل محله لغة الحرب، منذ بدء حرب دونباس بات منزلهما نفسه في منتصف الصراع الروسي ـ الأوكراني. تغيرت حياة الزوجين بشكل لا رجعة فيه، حيث تتسلل الحرب حرفيا إلى غرفة معيشتهم، وعلى الرغم من أن منزلهما يبدو للوهلة الأولى وكأنه ساحة حرب، بعد تهدم جزء منه. إيركا حامل وتتوقع ولادة الطفل قريبا، بينما يتساءل توليك كيف سيحافظ على سلامتها، وكيف الوصول إلى المستشفى بعد أن استعار صديقهم الانفصالي سانيا (شيفتشوك) سيارتهما ــ بعض أصدقاء الزوج توليك كانوا مسؤولين عن هذا الخراب ـ وبدلا من الاعتذار يعودون لنهب مزرعة إيركا للحصول على الإمدادات من الطعام، وفي النهاية يجبرون توليك على ذبح بقرتهم الوحيدة لإطعام الجنود. كما قاموا بتنظيف بعض الأدلة من حطام الطائرة، وإزالة جثة لا تزال مربوطة إلى مقعد الطائرة التي هوت، حيث تعمل روسيا على بناء قصة بديلة، وتلقي اللوم على أوكرانيا في حدوث تلك الكارثة.
خيانة مجانية
مع تصاعد التوتر بين الزوجين، يظهر شقيق إيركا الأصغر المتهور (ياريك) أوليغ شيربينا، ويتشاجر مع توليك ويعتبره حثالة روسية. المخرجة تنقل التركيبة الاجتماعية والعرقية المعقدة لشرق أوكرانيا. عندما يكتشف شقيق إيركا الموالي بشدة لأوكرانيا ياريك زيا عسكريا روسيا مخبأ تحت الأريكة ويسارع إلى اتهام صهره بأنه انفصالي حقير، لكن الحقيقة هي أن توليك مثل العديد من الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من الحدود الروسية ليست لديه انتماءات سياسية ويهتم بسلامة وأمن عائلته أكثر من العلم الذي يرفرف فوق رأسه.
الحرب كظل للحياة
أحداث هذه الدراما التي تم تصويرها بشكل رائع أثناء غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2014، وهي مليئة بالسخرية السوداء. مزارع معزولة وآفاق لا نهاية لها، الكاتبة والمخرجة مارينا جورباخ، استطاعت أن تملأ المشهد بالمواقف والمشاعر الحالية التي تأتي في الوقت المناسب أكثر مما كانت تتخيل. إذا نظرنا إليها من خلال عيون المرأة، فهي مزيج جذاب من الدراما الشخصية والموضوعات القوية وهي في انتظار ولادة طفلهما الأول. وتصور بطولة النساء في زمن الحرب، التي تمثلهن إيركا المثابرة على المضي قدما في الحياة، وهي تحاول الحفاظ على استمرار الحياة المنزلية وسط فوضى الحرب المقبلة. كانت مصادفة بحتة أن روسيا قررت غزو أوكرانيا بعد بضعة أشهر من العرض الأول لفيلم «كلوندايك» في مهرجان صندانس، لكنها تلقي ضوءا جديدا على صراع معقد للغاية لا يمكننا استخلاص أي استنتاجات واضحة منه طوال اللقطات. لا ينوي الفيلم شرح أصل الصراع أو وضع الحلول، لكنه ببساطة سرد قصة مؤلمة ورهيبة تحتاج إلى التذكير بالفظائع التي تحدث في تلك البقعة من العالم. وحتى لا ننسى أن هذه ليست قصة منتصرين ومهزومين، لكنها قصة تحكي حياة الناس على المحك. ويبدو أن مقاومة الحرب لا طائل منها، كما تقول المخرجة، لأنه عندما تندلع، وبغض النظر عن مدى تظاهرك بالعيش حياة طبيعية مع كرة القدم على التلفزيون والعشاء والسكر والجنس، ستكون الحرب دائما خلفية في حياتك. فعندما يحاول توليك ممارسة الجنس مع زوجته الحامل، بينما يبحث طاقم في حطام الطائرة في مكان قريب. «ليس لدينا جدران، وتريد أن تفعل ذلك؟» تسأل إيركا المنزعجة من موقف زوجها.
كابوس ثقيل
الفيلم رؤية سينمائية كابوسية للمنزل المدمر مع اندلاع صراع حدودي مروع. وبينما يحاول «توليك» أن يسترضي الانفصاليين الذين يتوقعون منه الانضمام إلى خططهم، في الوقت الذي تتلاشى خيارات عائلته للهروب بعد الاستيلاء على قريتهم من قبل المليشيات الانفصالية التي لم تسمح لأحد بمغادرتها.
وفي الأحداث الأخير للفيلم نرى إيركا تتألم بسبب المخاض ولا أحد قربها ولا يوجد طريق ولا سيارة ولا مستشفى، وحتى جيرانها ماتوا جميعا، أو فروا منذ زمن طويل. في هذه اللحظة يحتل المسلحون بيتها ويستجوبون الزوج توليك حول الطائرة الماليزية التي سقطت قرب بيتهم، يأمرون زوجها بإعداد وجبة غداء وبعدها يمكنه نقل زوجته الى المستشفى، وحين يعثر قائد المجموعة على مسدس في دولاب ملابس توليك، يطلب منه إطلاق النار على شقيق زوجته (ياريك) يفشل في الضغط على الزناد، بعدها يناول المسدس الى ياريك ويأمره بإطلاق النار على صهره (توليك) لكنه يصدمهم ويُطلق النار مباشرة على آمر المجموعة الانفصالية فيسقط صريعاً، كما سقط في الوقت ذاته توليك وياريك معا برصاص الانفصاليين، ثم سحبوا جثة قائدهم إلى السيارة وغادروا المكان. بينما تبقى إيركا وطفلتها التي تولد في النهاية بمفردهما.
تقول غورباخ: «قصة الفيلم عن النساء اللواتي يناضلن في الحياة. وإيركا تخلق حرفيا الحياة في داخلها ضد أولئك الذين يريدون التدمير والخراب. وقد أهديت هذا الفيلم للنساء اللواتي يصارعن من أجل البقاء على قيد الحياة ولديهن رغبة في مواصلة الحياة. إنه التفاني من أجل مستقبل أوكرانيا».
كاتب عراقي
“القدس العربي”