انتقدت 700 شخصية عراقية من منظمات مجتمع مدني وأكاديميّين وصحافيين وناشطين ونخب صمت بعثة الأمم المتحدة وممثلة الأمين العام إزاء الانتهاكات الخطيرة للحريات العامة وحقوق الإنسان في العراق.
بغداد ـ «القدس العربي»: وجد حقوقيون وأكاديميون ونشطاء عراقيون، في زيارة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى العراق الأسبوع الماضي، عقب ستّ سنوات، فرصة للتعبير عن جمّلة مخاوف من تهديدات مباشرة لملف حقوق الإنسان في العراق، وفيما عبّروا عن مخاوفهم من بوادر على نشوء دكتاتورية جديدة برعاية «أممية» في هذا البلد المليء بالأزمات، وجهوا مذكرة احتجاج إلى الأمين العام للأمم المتحدة ضد البعثة الأممية العاملة في العراق «يونامي».
ووقّع نحو 700 شخصية عراقية من منظمات مجتمع مدني وأكاديميّين وصحافيين وناشطين ونخب على الوثيقة، منتقدين بشدة صمت بعثة الأمم المتحدة في العراق «يونامي» وممثلة الأمين العام إزاء «الانتهاكات الخطيرة» للحريات العامة وحقوق الإنسان.
ووصل المسؤول الأممي إلى العاصمة الاتحادية بغداد، ليلة الثلاثاء/الأربعاء الماضية، التقى خلالها المسؤولين العراقيين، قبل أن يتوجه إلى مدينة الموصل واطلاعه على أوضاع النازحين هناك، ليغادر بعدها إلى مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، في آخر محطّات الزيارة.
وجاء في نصّ الوثيقة: «نعرب لكم عن قلقنا البالغ إزاء ما يجري في العراق من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان والحريات العامة، وسط صمت غريب وغير مبرر من بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) ومكتب حقوق الإنسان التابع لها والمسؤول عن إعداد التقارير الخاصة بالوضع الإنساني والحريات في العراق، ففي خلال أكثر من 100 يوم على تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني، لاحظنا قيام السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بخطوات تنتهك بشكل خطير حرية التعبير التي كفلتها مواد مختلفة من الدستور أهمها (2، 38، 46) كما تخرق بوضوح التزامات العراق الدولية في هذا الشأن، بما يُعد تهديداً مباشراً لجميع الحقوق المكتسبة بعد 2003 وإنهاءً لثقافة المعارضة والاعتراض، وعودةً بالبلاد إلى الحقبة الشمولية السابقة».
وأفاد الموقعون بأنه «وبالرغم من أنّ تلك الخطوات المهدّدة للحريات تمت في وضح النهار عبر أوامر قضائية وتحركات حكوميّة ومحاولات لإصدار قوانين جديدة، إلا أننا لمسنا تغييباً لذكرها في الإحاطتين الأخيرتين لممثلة الأمين العام جينين بلاسخارت، بينما هي قضايا تمسّ مستقبل الديمقراطيّة في العراق، الأمر الذي يضع علامات استفهام جدّية حول الدور الحقيقي لبعثة الأمم المتحدة في العراق، وحول مدى التزامها بمهامها الواردة في قرارات مجلس الأمن التي منحتها الولاية بشكل متجدد كلّ عام، وصولاً إلى القرار الأخير المرقم (2631) للعام 2022 الذي نصت الفقرة (د) منه بتكليف رئيسة البعثة في العراق بـ: تعزيز المساءلة وحماية حقوق الإنسان والإصلاح القضائي والقانوني».
وأشّرت المذكّرة «صمت بعثة (يونامي) عما يجري تحت أنظارها من انتهاكات شغلت النقاش العام وصدرت بسببها بيانات ومنشورات تحذيرية من نخب عراقية في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي».
ومن بين تلك «الانتهاكات» إنه «في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2022 قام مجلس النوّاب العراقيّ بالقراءة الأولى لبعض التشريعات التي تقوض حرية التعبير والمعارضة بحجة (تنظيم الحريّات) في المقدمة منها (قانون حرية التعبير والتظاهر السلمي) و(قانون جرائم المعلوماتية) وهما قانونان سبق أن رفضهما العراقيون بشكل واسع عندما حاولت قوى السلطة الحالية نفسها تمريرهما في العامين 2011 و2017 وحينها أصدرت المنظمات الدولية المعنية بالحريات بيانات شديدة اللهجة ضدهما. كلّ من القانونين يتضمنان مفاهيم عامة وعبارات فضفاضة تتيح للسلطات استخدام تفسيراتها الواسعة لقمع الخصوم، كما إنهما يعيدان العمل بمواد قانونية قمعية موروثة من النظام السابق لحماية السلطة الحالية من النقد والمحاسبة العامة. يشار إلى أنّ هذه المواد جرى تعليق العمل بها بعد 2003 بموجب قرارات سلطة الائتلاف المؤقتة آنذاك لأنها وجدتها لا تتناسب مع العهد الديمقراطيّ الجديد».
ووفقاً للمذكرة فإن السلطات العراقية تسعى أيضاً «للسيطرة بشكل قمعي على فضاء الإنترنت واستخدام الكمبيوترات والأجهزة الإلكترونية، وهي تحاول الآن إصدار ما يسمى (لائحة المحتوى الرقمي في العراق) التي نشرت في بعض وسائل الإعلام بتاريخ 14/ 2/ 2023 وتتضمن أيضاً مفاهيم عامة وعبارات فضفاضة لا يمكن بلوغ معنى محدد لها وتتجه جميعاً إلى منع نقد الدولة ومؤسساتها وشخوصها، وبموجبها يتم فرض عقوبات حظر إلكتروني على الأشخاص والمؤسسات المدنية وإلغاء الحسابات ومنع الوصول الحر للشبكة الدولية والغرامات العقابيّة الباهظة».
ومن بين «الانتهاكات» التي وثّقتها المذكرة هي «تقييد حرية الإنترنت التي تعمل عليها السلطات في العراق، من خلال لائحة تنظيمية، يمثل مخالفة للمعايير الدولية في تنظيم الحقوق والحريات والتي توجب ان يكون تنظيم الحقوق والحريات بتشريع يصدر من الجهة المختصة بالتشريع باسم الشعب، لا من قبل هيئة اخرى منبثقة بقانون يسمح لها التقييد بشكل جزافي».
وأكدت أنه «في الأسبوعين الأخيرين، تقوم قوى السلطة بسباق محموم داخل مجلس النوّاب لإعادة العمل بقانون الانتخابات السابق، الذي تسببت احتجاجات تشرين الضخمة (2019-2020) بتغييره إلى قانون جديد يلبي حاجة القوى الناشئة والمرشحين الفرديين، وقد تم بالفعل تطبيقه بنجاح في انتخابات 2021 فصعدت قوى وشخصيات جديدة كان القانون السابق يحرمها من الفرص العادلة للمنافسة».
وأشارت إلى أن السلطات العراقية تقوم منذ أواخر كانون الثاني (يناير) 2023 بـ«حملة ترهيب لعشرات الآلاف من المواطنين تحت عنوان (مكافحة المحتوى الهابط) أقحمت فيه السلطات نفسها في قضايا تتعلق بالفن السطحي والذوق العام من دون أيّ سند قانوني أو دستوري، ومن دون تحديد واضح لمعنى (المحتوى الهابط) وخلطت في إجراءاتها بين المحتوى الرقمي الذي يتضمن جرائم محددة كـ(الابتزاز) و(التحريض) و(الإرهاب) والمحتوى الرقمي الذي يتضمّن مواقف كوميدية تافهة لا تنطوي على جرائم، وقد جرى تطويع بعض المواد القانونية الموروثة من النظام السابق لتسويغ هذه الحملة تحت مفاهيم عامة لا معنى محدد لها مثل (الآداب العامة) و(الأخلاق) و(الذوق العام). وبسبب هذا التطويع القانوني صدرت قرارات قضائية بسجن عدد من المشهورين في وسائل التواصل الاجتماعي بمدد مختلفة تصل إلى سنتين، كما نشرت وزارة الداخلية عبر منصاتها تسجيلات مصورة تفخر فيها بالتنكيل المنهجي بالمعتقلين وإهانتهم علناً بحجة الدفاع عن الأخلاق، في إجراء ينتهك حقوق المتهم أثناء التحقيق وفق المواثيق والمعاهدات الدولية».
وتحدثت المذكّرة أيضاً عما وصفتها «فشل معالجة ظاهرة الأحزاب المسلّحة التي تقوم عملياً بالالتفاف على القانون وتستخدم سلطة الأقوى لفرض الإرادة، وتدير دولة عميقة مسلحة موازية للدولة الظاهرة للعلن (في هذه النقطة بالذات نشير إلى عدم ظهور أيّ عمل جدي ومتواصل من ممثلية الأمم المتحدة لحث الأحزاب المسلحة على ترك السلاح والانتقال إلى العمل السياسي المدني بما يدعم الديمقراطية في العراق)».
كما لفتت إلى «استمرار ظاهرة الإفلات من العقاب في جرائم السنوات السابقة، أبرزها قتل المتظاهرين وخطف الناشطين والإعلاميين وترهيبهم وتهريب النفط والإتجار بالمخدرات، ثم التقاعس عن التحقيق في قضايا الاختفاء القسري للمواطنين الذين يعبرون عن آرائهم السياسية المعارضة، والصمت إزاء عرقلة محاكمة المتهم بقتل الباحث الاستراتيجي هشام الهاشمي».
ونبّهت أيضاً إلى «تنامي الجرائم والانتهاكات الإنسانية الخطيرة في الآونة الأخيرة، وبوادر عودة الشحن الطائفيّ الذي دمر موارد العراق البشرية والمادية طوال مرحلة ما بعد 2003 بما في ذلك استثماره سياسياً، لا سيما أنّ بعض هذه الجرائم يصعب جداً تنفيذها من دون اختراق الأجهزة العسكرية الأمنية».
وعن «الانتهاكات» التي تحدث في إقليم كردستان العراق، ذكرت المذكرة الاحتجاجية إن «استمرار الانتهاكات لقواعد العمل الديمقراطي وللإدارة المؤسساتية في إقليم كردستان، بما في ذلك الفشل في إجراء الانتخابات البرلمانية في مواعيدها المحدّدة، وتمديد عمر برلمان الإقليم خلافاً للشرعية الانتخابية وتعطّل دوره في الرقابة والمحاسبة وإقرار موازنات الإقليم السنوية، وتعمق حالة تحزيب المؤسسات ومن ثمَّ الانقسام الإداري والأمني بما له من انعكاسات سلبية على حياة المواطن، فضلاً عن توظيف السلطة القضائية في الصراع السياسي، وتوقف مساعي كتابة دستور إقليم كردستان بالرغم من أهميته في وقف التجاوزات والانتهاكات للحقوق المدنية وفي منع تشريع قوانين تهدد الحريات العامة وحق التعبير والنشر، إلى جانب استشراء حالات ملاحقة الصحافيين والمدونين والناشطين، باستخدام نصوص قوانين موروثة من الحقبة الدكتاتورية وتتعارض مع الدستور العراقي».
وأعرب الموقعون على المذكرة عن «احتجاجهم الشديد» من إمكانية نشوء «نظام شمولي جديد، تحت نظر وصمت الأمم المتحدة وممثليتها في العراق، لا سيما أنّ أحد أبرز واجبات (البعثة) هو مساعدة العراق في تنمية نظامه الديمقراطي، والدفاع عن الحريات المكفولة دستورياً، وليس العكس، وإننا إذ نحذّر المجتمع الدولي من مغبة التفرج وخطورة غض النظر عن التحولات السياسية التي تشهدها بلدان مثل العراق، فإننا نذكره بتجارب أخرى قضت تدريجياً على الديمقراطية وآلت إلى دكتاتوريات امتدّ خطرها إلى كل العالم، من قبيل النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا».
وطالب الموقعون البعثات الدبلوماسية الدولية الداعمة لـ«يونامي» بـ«التحقيق في كلّ ما تم ذكره في أعلاه، والنظر في تفاصيل اللقاءات السرية والعلنية التي يصاحبها صمت مطبق عن انحراف العملية السياسية والانتهاكات الإنسانية التي يشهدها البلد، والتحقق من خلفيات المستشارين الذين تعاقدت معهم البعثة، وبعضهم جاء بناء على ترشيحات من أحزاب السلطة، وعدم الاكتفاء بالإحاطات التي تقدمها جينين بلاسخارت، التي غالبا ما تغفل الكثير من المضامين المهمة، وتسهم – بشكل مخيف- بإعطاء صورة منقوصة عن وضع الحريات والديمقراطية في العراق».
وأكدوا أن «بعثة الأمم المتحدة فشلت في السنوات الأخيرة في الالتزام بالمهام المناطة بها، وأنها تميل إلى المداولات والتنسيق السياسي مع قوى السلطة أكثر بما لا يُقاس من مهامها في مساعدة العراقيّين في تثبيت دعائم الديمقراطية وتخليصه من القوانين القمعية الموروثة من حقبة الدكتاتورية، وأنها تتجنب بشكل مريب الاستجابة لواجباتها في الضغط الجاد والمتواصل على أحزاب الحكم لتغيير منهجها المقوّض للحرّيات، وإيقاف مسلسل نزيف الديمقراطيّة».
وفي الموازاة، صرح عضو مفوضية حقوق الإنسان السابق، علي البياتي، جمّلة تساؤلات تتعلق بعمل البعثة الأممية في العراق.
وذكر البياتي في بيان صحافي أن «هناك ثلاث رسائل يجب التركيز عليها واثارتها الأولى، هل بعثة الأمم المتحدة في العراق تقوم بواجباتها بشكل جيد وحسب صلاحياتها والتزاماتها كبعثة سياسية وإنسانية لمساعدة العراق، والوكالات الأخرى المرتبطة بها أو الشريكة لها وهل تطبق كلمات أمينها العام؟».
أما الرسالة الثانية؛ فتساءل البياتي: «هل الطبقة السياسية في العراق تدرك أهمية كلمات الأمين العام، وهل ستكون تذكيرا كافيا لها لكي تتضامن هي أولًا مع الشعب العراقي الذي يعاني من ويلات حروب وكوارث من صنيعة هذه الطبقة السياسية؟ وهل ستلتزم بمبدأ الحوار ودعم السلام بعد عقدين من العنف؟».
وأخيراً يرى أن الحقوقي أن الرسالة الثالثة موجهة إلى الشعب العراقي، مفادها إن «الأمم المتحدة موجودة لأجل دعم حقوقهم، ولكن هل هناك آليات واضحة أو برنامج ممنهج لتفعيل هذا الدور بين الشعب العراقي (المتمثل بالفعاليات المدنية والاجتماعية والثقافية وهل هي بحاجة إلى تطوير) والأمم المتحدة من خلال بعثتها في العراق؟».
“القدس العربي”