لا يمكن تحليل مواقف جنبلاط إنطلاقاً من ردود فعل المعارضة او الموالاة لا سيما ان المعارضة ارادته حليفاً لها، ولطالما اعتبرت ان وزنه السياسي رافعة إتكأت عليها الموالاة التي كانت بأمس الحاجة إلى من يقودها بعد اغتيال الرئيس الحريري. فكان القائد الفعلي لها طوال اربع سنوات واطلع عن قرب على التحالفات الأميركية مع العرب المعتدلين إلى حد انه أصبح جزءاً لا يتجزأ من الحرب على المعارضة بل قل أصبح قائداً في هذه الحرب، والشرارة التي كادت تشعل حرباً سنية – شيعية.
لا يمكننا تبسيط النقلات النوعية والتغيرات السياسية لهذه الشخصية المكيافيلية وإختصارها بالقول إنها مواقف رجراجة لا تنم عن شخصية سوية، وإستسهال الحديث عن هذه التحولات وكأنها سمة سيكولوجية وليست سياسية لتسهيل الأحكام.
لذا لا بد من قراءة مواقف جنبلاط بموضوعية، لا سيما أن الرجل لا يبني مواقفه فقط على ردود الفعل إنما على وقائع منكهة بردود فعل لا يمكن ضبطها في معظم الأحوال إلا بتراجعات شكلية وليست فعلية.
لن نعيد قراءة تاريخ جنبلاط السياسي إنما نحن في صدد قراءة المحطات الرئيسة التي قادت الى التقلبات والإنقلابات في بعض الأحيان. فالأسباب التي جعلت من جنبلاط رأس حربة في المشروع الأميركي كانت الحاجة الى زعامة تقود الشارع بعد اغتيال الحريري، لا سيما أنه كان شكل معه جبهة معارضة للتمديد وللوجود السوري، حيث افترض الاثنان انه اصبح وجودا موقتا لا سيما بعد الاجتياح الاميركي للعراق. ساعد في هذا الرهان الموافقة العربية على ضرب عراق صدام والخلاص من حزب البعث واحلال نفوذ اميركي – عربي مكانهما يهدد النظام السوري بالاضمحلال. هذا التحليل المبني على تحالفات عربية وغربية جعل جنبلاط اكثر إلتصاقاً برؤية رفيق الحريري وما 1559 سوى وجه من اوجه هذا الرهان. وكانت محاولة اغتيال مروان حمادة الايذان بنهاية العلاقة السورية – الجنبلاطية مما جعله يذهب في مشروعه الى النهاية.
لم يتوقع جنبلاط إغتيال الرئيس الحريري، فوجد نفسه في مهمة قيادة مشروع جديد يحتم عليه التنكر لماضيه. بدءا بالحركة الوطنية و 6 شباط وحرب الجبل الى 17 ايار. وقد ختمه بالشمع الاحمر فانهارت الصورة وبدأ الاعداد لانتاج صورة جديدة اعتمدت العروبة "المعتدلة" عنوانا لها. وقد خيضت الحروب الداخلية باسمها. حكمت هذه الرؤية الايديولوجية البلاد اربع سنوات حتى كانت احداث 7 ايار التي يمكننا اعتبارها مفصلاً مهماً حيث تم وضع الامور في نصابها لا سيما ان توقيتها الاقليمي والدولي اتى محكما.
إن افول مشروع المحافظين الجدد اعاد القوى المحلية التي تضخمت أحجامها الى الواقع. فصمود المقاومة في حرب تموز وتلاحم عون – "حزب الله" والتحالف مع سوريا التي صمدت طوال فترة حكم المحافظين الجدد كرّس في إتفاق الدوحة عبر انتخاب الرئيس التوافقي وعبر التفاهمات التي سادت.
يبدأ تموضع جنبلاط الجديد عند هذا الخط الفاصل بين الموالاة والمعارضة فهذا التموضع أخذ سنة ونيفاً. وتجذر:
– مع التغيرات السياسية في اميركا لمصلحة الديموقراطيين.
– الأزمة الإقتصادية السياسية التي انفجرت في وجه المحافظين الجدد.
– حرب غزة التي أودت بصورة مصر ودول الإعتدال العربي.
– عودة العلاقات الأميركية – السورية والإنفتاح الاميركي على ايران.
– الإنفتاح السعودي على سوريا.
هذا على الصعيدين الإقليمي والدولي، اما على الصعيد المحلي فهو كان مدركاً أن الانتخابات النيابية لن تكون سوى انعكاس للمال السياسي العربي الذي يؤيد الوصول الى السيطرة وهو سوف يدرك مبتغاه. فالضغط الدولي كان حاضراً لكي يطعن بأي فوز محتمل للمعارضة. لكن هذه الإنتخابات أثارت إمتعاض جنبلاط وجعلته يخسر صدقيته عند بعض اصدقائه المسيحيين المستقلين لا سيما في الجبل والشوف حين فرض عليه ان يضم الى لوائحه حزبي الكتائب والقوات اللبنانية.
انذر حلفاءه على طريقته فلم يعد هنالك من ضغوط دولية والعرب تلقوا ثلاث صفعات في حرب العراق، وحرب تموز وحرب غزة. فلا بد من إعادة الامور الى نصابها في الداخل دون خسائر، فلا تهدئة مع مسيحيي الموالاة لا سيما الحزبيين منهم فالرجل لا يرى ضيراً في عودة المسيحيين الى الجبل. انها ديارهم، لكن العودة الحزبية غير مأمونة الجانب وتذكرها بمكتسبات حرب الجبل وآلامها.
ان يلعب جنبلاط دور القائد المحرك، الفاعل لـ 14 اذار وان يدير الحرب على الآخرين فهي مسألة تعزّز نفوذه وموقعه المحلي والدولي والاقليمي، وهو الدور الذي قام به كمال جنبلاط في 1975 – 1976 لكنه لم يحققه كما حققه الوليد الذي قاد السنّة وموارنة 14 آذار.
لكن ان تأتي التحالفات الداخلية لـ 14 آذار على حسابه وان يعتبرها سعد الحريري ضرورية لدعم الحلفاء، فهي كمن يُدخل على ارضه شريكا مضاربا وهذا ما لا يمكن ان يتقبله البيك فيعود الى تاريخه، الحركة الوطنية وحرب الجبل و17 ايار واليسار، ويرتدي ثوب الاعتدال ليغيّر الموقع والدور. فالحاجة الى اعادة التموضع اليوم اصبحت ضرورة تكلفتها في لبنان مؤتمر صحافي وتلاوة فعل الندامة.
اما العلاقة مع سوريا فهي مسألة دأب على العمل عليها منذ سمع عبارة "تغيير سلوك سورياً" من فم كوندوليزا رايس، فكيف الحال بعد الانفتاح الاميركي والسعودي عليها؟
يعبر وليد جنبلاط عن دأبه كأقلية طموحة، ويعتقد بأن حجمه سياسي وليس ديموغرافياً لا سيما ان هذه الطائفة ساهمت في بناء الفكرة اللبنانية وهي من الثوابت المؤسسة لهذا الكيان تاريخياً، لكنها اليوم في ضمور لا ينقذها اللعب على التناقضات وتغيير المواقع انما العودة الى الجذور، فوليد جنبلاط وان حاول التمايز عن والده لكنه عاد اليه صاغرا، لكن الاختلاف فقط كان في الزمان.
النتيجة هي نفسها التي توصل اليها والده بشأن حجم الطوائف ومحدودية دورها الفرق ان الوليد براغماتي وكمال كان مبدئيا. والمشكلة تقع على الزمن المتغير.
(استاذة في الجامعة اللبنانية)
"النهار"




















