سلام بوتين أخطر من حرب لم يربحها

ساعة التسوية في حرب أوكرانيا دقت مراراً، لكنها بدت مُستعصية في كل المحاولات التركية والأوروبية والأميركية والصينية. وكل شيء يوحي أن قمة بودابست التي ألغاها الرئيس دونالد ترمب مع نظيره فلاديمير بوتين لم تكن مختلفة عن قمة ألاسكا واللقاءات السابقة، من حيث تصور ترمب في البدء أنه يستطيع إنهاء حرب أوكرانيا باتصال هاتفي مع بوتين.

لا تسوية، في نظر موسكو، إلا بشروط بوتین الذي غزا أوكرانيا قبل ثلاث سنوات ولا يزال یسمي حربه “عملية عسكرية خاصة”. ولا تسوية، في نظر كييف، على حساب الأرض التي يصر بوتين على ضمها إلى روسيا في حين يعلن الرئيس فولوديمير زيلينسكي بعد عودته من لقاء ترمب في البيت الأبيض: “لن تمنح أوكرانيا الإرهابيين أي مكافأة على جرائمهم”.

ولا تسوية، في رأي ترمب، من دون تنازلات صعبة من الطرفين، وهي بحسب العرض الروسي الأخير ضم روسيا كل منطقه “الدونباس” وسحب القوات الأوكرانية من القسم الذي عجزت موسكو عن احتلاله في دونيتسك بعد احتلال لوغانسك، مقابل انسحاب القوات الروسية من أجزاء احتلتها في زابوريجيا وخيرسون.

وليس أخطر من حرب بوتين سوى السلام الذي يريد فرضه. والأخطر منهما معاً هو إعادة أوروبا، بالتالي العالم، إلى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وحتى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث السياسة هي “الافتراس”. الكبير يهيمن على الصغير، والقوي يغزو الضعيف. وهذا ما قاد إلى “عسكرة أوروبا” بعد عقود من الاسترخاء تحت المظلة الأمنية الأميركية.

أما عسكرة روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن ضمنها غزو أوكرانيا بعد ضم القرم، فإنها رد على ثلاثة تحديات، بحسب سردية الكرملين، الأول هو خرق أميركا لتفاهم مع غورباتشوف عبر التصرف كأنها المنتصرة الوحيدة في الحرب الباردة من دون شراكة موسكو، وتوسيع “الناتو” إلى حدود روسيا بضم دول المعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية. والثاني هو تلاعب الغرب بالنظام الأوكراني وتكبير الوعود بضم كييف إلى الاتحاد الأوروبي و”الناتو”. والثالث هو تحدي النظام الدولي الأحادي من أجل نظام متعدد الأقطاب لا هيمنة أميركية فيه، لا بل إن بوتين قال في رسالة عام 2021 عن “الوحدة التاريخية بين روسيا وأوكرانيا” إن شعبهما كان دائماً روسياً، وأوكرانيا هي مهد ولادة روسيا”.

الواقع، كما تقول فيولا هيل وأنغيلا ستنت من “بروكنغز”، أن بوتين “يريد عالماً تترأس فيه روسيا على اتحاد سلافي يضم بيلاروس وروسيا وأوكرانيا والجزء الشمالي من كازاخستان، ويطلب من الغرب التسليم بهيمنته على أوراسيا”. وإذا كان غزو أوكرانيا جزءاً من هذه الخطة، فإن ما فعلته الحرب التي تتبدل أهدافها كلما طاولت هو ما لم يكن في حساب بوتين.

أولاً “الخطأ في تقييم قوة روسيا وقوة أوكرانيا”، فكان من الدروس “محدودية القوة العسكرية” حسب المتخصص الاستراتيجي البريطاني لورنس فريدمان. وثانياً أن استخدام سلاح الوطنية الروسية أدى إلى تعميق الوطنية الأوكرانية وتوظيفها في المواجهة. وثالثاً انكشاف كون الجيش الروسي ليس جيشاً من الدرجة الأولى، بحيث لم يستطع في ثلاث سنوات الحصول على ما تصور أنه سيأخذه خلال أسبوع.

ورابعاً أن روسيا تغیرت بمقدار ما تغيرت أوكرانيا، وأن الخوف الأوروبي من زحف الدبابات أيام الاتحاد السوفياتي صار أكبر في هذه الأيام من زحف الدبابات الروسية. وخامساً أن موسكو كقوة كبرى حاربت بسلاح تصنعه وتقرر استخدامه، في حين أن أوكرانيا البلد المتوسط حاربت بأسلحة تأتيها من أميركا وأوروبا من دون أن تملك قرار استخدامها إلا بموافقة واشنطن أولاً. وسادساً أن “الشراكة بلا حدود” بين روسيا والصين أدت في المقابل إلى توحيد المواقف الأوروبية والأميركية.

وليس من السهل على ترمب أن يقرر تزويد كييف بصواريخ “توماهوك” التي ستدفع ثمنها أوروبا، لأنه يراوح بين الأمل وفقدان الأمل في التأثير في موقف بوتين. ومن المفارقات أن موسكو تحتج على تزويد أوکرانیا بالأسلحة، وهي تكرر التهديد باستخدام السلاح النووي بلسان ميدفيديف، لا بل إنها تتصرف كأنها في حرب مع “الناتو”، وتلوح بحرب عالمية ثالثة. غير أن حرب أوكرانيا لم تتحول إلى حرب عالمية وإنما صارت “معولمة”، كما يرى العالم السياسي الفرنسي برتران بادي.

ولا أحد يجهل مضاعفات أية تسوية على حساب أوکرانيا أرضاً وسيادة، لا فقط بالنسبة إلى كييف، بل أيضاً بالنسبة إلى جيران روسيا الخائفين منها. فالجزء الذي يبقى من أوكرانيا بعد ضم الدونباس والقرم لا مكان له في “الناتو” وإن كان يمكن أن ينضم إلى الاتحاد الأوروبي، وسيبقى تحت رحمة موسكو. حتى الرئيس ماكرون، فإنه يعلن في حديث مع “الإيكونوميست” أن “روسيا أصبحت تهديداً لأمن الأوروبيين وقوة مزعزعة للاستقرار الإقليمي”. وألمانيا تبدو كأنها تستعد لحرب مع موسكو.

والتحدي ليس في مساعدة أوكرانيا على أن تربح بصرف النظر عن صمودها لأن هذا صعب، بل في منع روسيا من أن تربح حرباً لم تنتصر فيها عملياً. والقارة العجوز تجدد شبابها وتفرض مزيداً من العقوبات على روسيا، لكن “الشعوب لا تعرف التاريخ الذي تصنعه”، كما قال ماركس.

• إندبندنت