في عالم فني شاسع ومتفرد خلقه الرسام الإسباني فرانشيسكو غويا، يستطيع المرء أن يتجول طويلاً، بين محطات إبداعية مختلفة، ترتبط بمراحل عمرية لفنان عاش في الفترة من سنة 1746 إلى سنة 1828، وأحوال نفسية وصحية تقلبت به كثيراً، وأسلوب حياة انتقل بعنف من معيشة عابثة لاهية، غارقة في الملذات والغراميات الملتهبة، إلى عزلة شبه تامة فرضها الفنان على نفسه بعد أن أصيب بالصمم وبعض العلل النفسية حينما كان في السابعة والأربعين من عمره، وغويا اسم يثير الخيال، فهو من الأسماء العظيمة في تاريخ الفن التشكيلي ومن العباقرة الخالدين في هذا الميدان، الذين صنعوا فناً شديد الخصوصية والتنوع، بخطوطه وألوانه، وكتله وتكويناته، ونوره وظلمته، وكذلك بأفكار لوحاته وأجوائها، من لوحات دينية، ولوحات الحرب وويلاتها، ولوحات الساحرات والغيلان والأشباح، والكوابيس والأحلام المفزعة، واللوحات السوداء، وتزيين أسقف الكنائس. وعلى الرغم من أن هذا الفنان ينتمي إلى المذهب الرومانتيكي، إلا أننا نجد في أعماله بعض ملامح الواقعية والتعبيرية، والرمزية وحتى السريالية، ما يعني أنه كان يدع فرشاته لتنطلق بحرية وتعبر كما يحلو لها، كما أن له بعض الأعمال المبكرة التي صاغها على غرار أسلوب الروكوكو، الذي يعتني كثيراً بالزخرفة والتنميق، والخطوط المقوسة، والمنحنيات الناعمة. وما يقف المرء أمامه كثيراً عند غويا، هو ذلك الخيال الذي كان ينتج مثل هذه الأفكار، والمهارة المذهلة في التعبير عن هذه الأفكار مهما كانت غريبة، وتنفيذها وتخليدها بهذا الشكل الرائع. رسم غويا مئات اللوحات، وله سلاسل فنية تعبر عن فكرة ما، كمجموعة اللوحات السوداء على سبيل المثال، ومجموعة ويلات الحرب، وغيرهما، وله لوحات مرعبة تفنن من خلالها في تصوير الخوف وأسبابه المنطقية وغير المنطقية، كما رسم الكثير من اللوحات الحزينة، التي تصور مشاهد محزنة مأساوية، سواء كانت خاصة بالبشر أو الحيوانات، لكنها في جميع الأحوال تثير الشعور بالأسى والشعور بالتعاطف. وتوقف غويا عند لحظات الحزن المتصلة بالخوف والألم أيضاً، والجميل في هذه اللوحات هو اشتباك الفنان مع الواقع والخيال في الوقت نفسه، والمزج بينهما وتوظيفهما لخدمة الفن وإمتاع المتلقي وإثراء الروح والفكر والوجدان.
لوحة الثالث من مايو 1808
رسم غويا لوحة الثالث من مايو/أيار 1808 سنة 1814، وهي لوحة زيتية على القماش، تحظى بشهرة كبيرة بين بقية أعماله، ويتم ذكرها عادة كمثال قوي على مهارة غويا في توظيف النور، أو قدرته على الجمع بين النور والظلمة في لوحة واحدة. وإلى جانب فكرة النور والظلمة، يبدو لافتاً في هذه اللوحة أيضاً مهارة غويا في تصوير الأجساد البشرية بأسلوبه الخاص وإيحاءاته المحددة. يقع موضوع اللوحة في قلب لحظات الموت، وأثناء تنفيذ عمليات الإعدام، لا قبل ذلك ولا بعد ذلك، في منتصف جريان العملية بالضبط، وهي تجسد أحوال الموت وتصف لحظاته كلها، فنرى الذين قتلوا بالفعل، والأجساد الساقطة على الأرض فوق دمائها المسفوكة، ونرى الجموع التي تنتظر دورها لاختبار تلك اللحظة الرهيبة، لحظة مفارقة الحياة بطريقة من أبشع الطرق الممكنة، ونجد فرقاً بين تلك الجموع، فهناك من هو على وشك الموت، ولا يوجد أمامه سوى ثانية أو ثانيتين لينتهي كل شيء، وهناك من أمامه وقت أطول قليلاً، قد يصل إلى خمس أو عشر ثوان. في اللوحة صراع بين الموت والحياة، لكنه صراع محسوم لصالح الموت، والحدث الذي يصوره غويا في لوحته الرائعة، هو حدث حقيقي وقع بالفعل، سنة 1808 في الثالث من شهر مايو، عندما تم إعدام 43 ثائرا من الثوار الإسبان على يد جنود نابوليون. ولما كان الإعدام يتم قبل الفجر، فقد جعل غويا السماء مظلمة حالكة السواد لا قمر فيها ولا نجوم، وفي الجزء الأيمن من خلفية اللوحة، نرى ذلك السجن أو تلك القلعة المنيعة، يختبئ جزء منها وراء السور الذي يقف أمامه الثوار المحكومون بالإعدام، أو الذين أعدم بعضهم وتجري عملية إعدام البقية. وكذلك جعل غويا أجساد الجنود تكاد تكون متساوية ومتشابهة، في الوقفة وشكل الأقدام واتخاذ الذراعين لوضعية إطلاق النار، كما أنهم يرتدون الثياب نفسها بطبيعة الحال، مع بعض الاختلافات الطفيفة في الألوان، ونراهم متراصين في صف طويل منظم يمتد إلى عمق اللوحة في جانبها الأيمن.
أما الثوار فقد قسمهم غويا إلى ثلاثة أقسام أو مجموعات، مجموعة تم إعدامها وصارت جثثاً تسبح فوق بركة من الدماء، مكانها في مقدمة اللوحة من الجانب الأيسر. ومجموعة توجد في المنتصف هي على وشك أن تموت وأن تخترق الرصاصات أجسادها، وفي هذه المجموعة يوجد بطل اللوحة، وصاحب الوجه الوحيد تقريباً الذي يظهر كاملاً وتبدو تعبيراته واضحة، فالجنود لا تظهر وجوههم أبداً، والثوار أغلبهم يغطون وجوههم بأيديهم، لكيلا ترى أعينهم ما يقع أمامهم من أهوال، وهناك من يصم أذنيه أيضاً. يرفع هذا الثائر ذراعيه ويفتح صدره لرصاص الفرنسيين، بينما يجثو على ركبتيه، وفي عينيه مزيج من الرعب والاستسلام، وربما تعجل إطلاق النار هرباً من تلك اللحظة الرهيبة. ونجد أن غويا جعل أقدام الجنود قوية ثابتة فوق الأرض، أما أقدام الثوار فنجدها متهاوية كأنهم على وشك السقوط، كما قام غويا بتوظيف الظل بمهارة، سواء ظل الجنود على الأرض أو ظل الثوار على الحائط. وبين الجنود القتلة والثوار، يوجد فانوس مكعب الشكل هو مصدر النور في اللوحة، إذ يضيء منطقة الثوار، هذا الفانوس لا يظهر منه سوى جانبين، أحدهما باللون الأصفر والآخر باللون الأبيض. ونجد الثائر بطل اللوحة الذي هو على وشك الموت، يرتدي قميصاً باللون الأبيض وسروالاً أصفر اللون، ويبدو النور متصلاً بين الفانوس وهذا الثائر، وكما أن الفانوس يعكس النور فإن الثائر صار مصدراً للنور هو الآخر.
لوحة حطام السفينة
رسم غويا لوحة حطام السفينة سنة 1800، وهي تصور مشهداً من مشاهد مصارعة الموت أيضاً، والانهزام أمام غضب الطبيعة. فنرى مجموعة من البشر، قذفت بهم الأمواج نحو جزء من شاطئ صخري بعد تحطم سفينتهم، نراهم يصرخون ويلهثون، تحت سماء يختلط فيها اللون الأسود باللون الأزرق، مع بعض اللمسات الحمراء النارية الخفيفة. ويتدرج البحر وأمواجه الهائجة بين اللون الأسود والبياض، عندما ترتطم الأمواج بصخور الشاطئ. بطلة هذه اللوحة تتشابه مع بطل لوحة الثالث من مايو 1808، من حيث إنها مركز للنور وإن كانت مساحة النور كبيرة في هذه اللوحة، وإنها ترتدي ملابس باللونين الأبيض والأصفر أيضاً، وترفع ذراعيها، لكن رفع الذراعين هنا قد يكون استسلاما أو طلباً للمعونة من السماء، أو من سفينة عابرة في هذا البحر العاصف والجو الهائج، وهو ما يبدو مستحيلاً إلى حد ما. هنا أيضاً في هذه اللوحة يقابل غويا بين الظلمة في أعلى اللوحة، والنور في أسفل اللوحة على الشاطئ الصخري، حيث توجد هذه المجموعة الناجية من الغرق، ويبدو الجميع في حالة من الهلع والإعياء، ونرى أكثر من ذراع ويد تمتد نحو الأعلى طلباً للخروج من المياه، هؤلاء البشر عبارة عن حطام أيضاً، نرى بعضهم عراة أو شبه عراة، تمزقت ثيابهم وتهلهلت، وهم إن كانوا قد نجوا من الغرق حتى هذه اللحظة، فإن المصير لا يزال مجهولاً، ولا يعرف هل سيأتي من ينتشلهم من هذا المكان، أم أنهم سيموتون على هذا الشاطئ الصخري.
لوحة حريق في الليل
هذه اللوحة رسمها غويا سنة 1794 وهي من لوحاته الرائعة حقاً، والمبهرة في توظيف الظلمة والنور والمقابلة بينهما، وكذلك في تصوير البشر ومعاناتهم في اللحظات الأكثر حزناً وخوفاً وألماً، وعذابات الأجساد والأرواح، ومحاولات الفرار والنجاة من الأخطار. تبدو اللوحة وكأن كل شيء يخرج وينبثق من قلب الظلام، فاللوحة يحيط بها اللون الأسود من كل جانب، أما النور فيوجد في منتصف اللوحة، ومصدره كتلة النيران الهائلة في الجانب الأيسر العلوي من اللوحة. وتتسم هذه اللوحة بانسيابية الخطوط وتداخلها وربما اختفاؤها في بعض المواضع. في لوحة حريق في الليل نرى اللهب المضيء بقوة في المنتصف وبشكل أضعف في الأطراف، وفي تدافع نحو مقدمة اللوحة نرى كتلة بشرية متلاحمة، مختلطة أشد الاختلاط، يحمل أحدهم بعض الأجساد المصابة، أو ربما الميتة، ويحاولون الابتعاد عن مكان الحريق في أقصى سرعة ممكنة، وتموج هذه الكتلة المتلاحمة بالحركة رغم ثباتها منذ أن رسمها غويا.
لوحة الكلب
تعد لوحة الكلب من اللوحات المتفردة في أعمال غويا، وربما لا تشبهها أي لوحة أخرى، وهي من اللوحات المتفردة أيضاً في تاريخ الفن التشكيلي بصفة عامة، فهي لحظة إبداع خالدة، وشعور إنساني يحمل الكثير من المعاني، غمر يوماً نفس غويا وصوره رسماً، ليظل ينتقل من هذه النفس المبدعة إلى نفس كل من يرى اللوحة ويتأملها. رسم غويا هذه اللوحة سنة 1819 وهي تنتمي إلى مجموعة اللوحات السوداء، وعلى العكس من أغلب أعماله التي تكون عادة مزدحمة ومشغولة، وممتلئة بالشخصيات والحركة والدراما والأحداث والعناصر، نجد لوحة الكلب تكاد تكون فارغة، أو هي فارغة بالفعل إلا من كلب، لا بل رأس كلب، هي التي تظهر فقط بينما يختفي بقية الجسم. تجد عين الرائي هذه الرأس في الوسط من نصف اللوحة السفلي تقريباً، حيث تبدو ظاهرة بلون أسود، والرأس هو الجسم الوحيد في فراغ كامل هو بقية اللوحة، لونه غويا بدرجات الأصفر والبني، بل إن اللونين الأصفر والبني يكادان يبتلعان هذه الرأس السوداء.
قسم غويا لوحته بشكل طولي إلى الثلث والثلثين، في ثلثي اللوحة أي الجزء الأعلى، يوجد اللون الأصفر مع بعض الضربات بتدرجات البني الخفيفة، وحول وأعلى الرأس صنع غويا القليل من الضوء. أما الجزء السفلي من اللوحة، فهو بني داكن، وهو الخط الوحيد تقريبا في لوحة تكاد تخلو من الخطوط، إذ تمتد حافة هذه المساحة البنية من يسار اللوحة، إلى يمينها بميل نحو الأعلى. يفسر البعض هذه اللوحة بأنها تصور كلباً يغرق في الرمال المتحركة، ربما بسبب اللون الأصفر الذي يذهب بالمخيلة نحو الصحراء، لكن بعيداً عن هذا التفسير، فإن من ينظر إلى اللوحة يرى أن الكلب الغارق في هذا الجزء البني أو المختفي وراءه، ربما يرفع رأسه ليقاوم الغرق وليحاول أن ينجو، أو ربما يرفعها لأنه يحاول الصعود إلى الجزء الأعلى من المساحة البنية، التي يبدو أنه يتطلع إليها، أو ربما يتطلع إلى صديق آدمي افترق عنه ويطلب مساعدته، الواضح هو أن الكلب وحيد تماماً وحزين، وأنه ينتظر عطفاً ويطلب رحمة.
كاتبة مصرية
“القدس العربي”