سوف أستعير عبارة « مسارات التفسير» من الناقد والفيلسوف وعالم العلامات الفرنسي رولان بارت، وهو يعني بها في كتابه « إمبراطورية العلامات» ما يسلكه المفسّرون الغربيّون أساسا من طرق عند تفسير الشعر، من مسالك قد تجلب إليه عادات في القراءة قد تناسب نصوصا ولا تناسب أخرى، وهو يقصد في حديثه ضربا من الشعر الياباني الموجز جدّا، الذي يعرف بالهايكو، وهو ضرب من الشعر معانيه بسيطة جدّا ويتطلب في رأي بارت لا تكرارا لمعانيه لأنّها تفقده كنهه، ولا تهشيما لأصوله الدلالية، بل تتطلب مراعاة للعاطفة الشعرية التي يحمّلها هذا النصّ الموجز، وضربا من القياس تكون فيه نسبة الرمزية الاستعاريّة مهمّة. إنّ الشرح الحشويّ بإعادة معنى النص الأصلي ليس شرحا مفيدا، وإن كان هو أصل الشروح لأنّه بإعادته المعاني المكرّرة ينزع عن الشرح، بما هو نصّ، جميع المسارات التي يمكن أن تنفع الناس في الشرح والتفسير أهمّها، بناء التفاعل الإدراكي مع المقطع المشروح. وهذا المنزع من الشرح يضفي على النصوص ذات القيمة العاطفية نوعا من البرود الذي قد يقتل روح المعنى وعاطفتها.
يعتقد بعض الناس أن المرادفة بين معنى النصّ ومعنى الشرح مطلوبة حتى لا يغادر النص الشارح ميادين المعنى ومرابعها الأصلية، ولذلك يذهبون مذاهب تتهم اللغة ومساراتها بأنّها توقع بالنصّ في السلخ اللغوي المجاني والبارد. هم يقصدون مثلا المرادفة بين المعاني، ولنأخذ على سبيل المثال التفاسير القرآنية الكلاسيكية التي تحاول شرح عبارات القرآن عبارة بأخرى واضحة ففي الآية 4 من سورة مريم التي يقول فيها تعالى على لسان زكريا: «قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا». نقل الطبري في تفسيره شرحا بالمرادفة لعبارة (وهن العظم منّي) فقال معناه (ضَعُفَ العظْم منّي) وقيل (نَحَل العظم مني) واضح أن المرادفة التي تضمن الشرح دارت حول وهن على اعتبار أن (وهنَ) هي الوحدة المعجمية التي فيها إشكال. ونحن وإن كنّا نعتقد أن ضعُف يمكن أن تؤدّي المعنى لأنّها متداولة في اللغة العامة، لكنّنا نعتقد أن نحل لا تؤدّي ذلك المعنى لقلة تداولها في الكلام العام في هذا المعنى، ما يدلّ على أن الفعل الشارح لا يقصد به الإبانة بقدر ما يقصد به الاستبدال الآلي لعبارة مشروحة فيها إشكال، بأخرى يعتقد أنّه لا إشكال فيها. وفي المسألة موازنة بين عسرين في الفهم وتقريب قد يصيب أو لا يصيب. الحقيقة أن (وهن) ليس لها معنى (ضعف) ولا معنى (نحل) بل لها معناها المناسب لسياقها المستعمل في وصف العظام هذا الذي تستعمل له العلوم اليوم عبارة هشّ وتسمي الحالة المماثلة هشاشة العظام. لكنّ هشاشة العظام ليست معنى مقصودا لذاته، بل هو حالة عمرية عامّة مناقضة لرغبة زكريا في الإنجاب، وهي جزء من توارد المتعارضات التي تصنع أساس الفعل الرباني المفارق: الإنجاب على كبر.
المسارات اللغوية تبدو غير موفّقة حتّى في أوج عطائها، فنحن لا شكّ نعلم ما ذكره الجرجاني من شرح ما يزال يُميل إليه الأعناق، ويثير الكثير من الإعجاب في تعليقه على (اشتعل الرأس شيبا) فعد ذلك مسلكا جديدا في الإسناد، إذ قال إن الله تعالى «سلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء، وهو لما هو من سببه، فيرفع به ما يسند إليه، ويؤتي بالذي الفعل له في المعنى منصوبا بعده، مبيّنا أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأوّل، إنّما كانا من أجل هذا الثاني، ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة» (دلائل الإعجاز، 73) فهذا تخريج نحوي المهم فيه تعيين المعنى النحوي للمنصوب، أهو مفعول مطلق أم تمييز، وبين المفعول المطلق والتمييز عليك أن تتعامل إمّا مع معنى معلوم مؤكد، أو مع مبهم مفسّر قبل إبهامه على نحو (تفقّأت شحما) ولكل معنى تأويل ففي الأوّل إبراز إدراكي للفعل المقدّر (شاب) وفي الثاني إبراز إدراكي للاسم (شيبا). وهذا التنازع يخرجنا -لأنه جزئيّ- من مسار عام للمعنى يصف فيه الداعي ربَّه ما يعلمه حتى يوفّر له بالدعاء أسباب العون. في هذه الآية فإنّ (لم أكن بدعائك شقيّا) هي مدار الفعل الدعائي فهي تفتح كل المعاني المغلقة السابقة التي تبدو طبيعيا وطبيا كالعائق الفعلي أمام تحقق رغبة الإنجاب.
نعتقد أن المسار التفسيري اللغوي لا يمكن أن ينفك عن مسار قيل فيه الكلام عند قوله ممزوجا بعاطفة قائله. التفسير اللغوي الشكلي أو الموضوعي تفسير يفصل الكلام عن جزئه الإدراكي الذي قيل فيه. نحن لا نقول كلاما مفصولا عن عواطفنا التي أنتجته، نحن البشر ومعنا أنبياؤنا لا نقول الكلام باردا ولا ننطق بما نقول مفصولا عن عواطفنا التي كانت سببا ما في توليده.
نعتقد أن المسار التفسيري اللغوي لا يمكن أن ينفك عن مسار قيل فيه الكلام عند قوله ممزوجا بعاطفة قائله. التفسير اللغوي الشكلي أو الموضوعي تفسير يفصل الكلام عن جزئه الإدراكي الذي قيل فيه. نحن لا نقول كلاما مفصولا عن عواطفنا التي أنتجته، نحن البشر ومعنا أنبياؤنا لا نقول الكلام باردا ولا ننطق بما نقول مفصولا عن عواطفنا التي كانت سببا ما في توليده.
تذهب الدراسات العرفانية الجديدة ولاسيّما منها الدراسات العصبيّة إلى أن العواطف تؤثّر في العمليّات الذهنية من نوع التفكير والحفظ في الذاكرة ذات المدى الطويل؛ وللمعالجات الذهنيّة تأثير أيضا في العواطف، فالتأثير إذن متبادل وعادة ما يدرس هذا التأثير تحت عنوان التفاعلات بين عاطفة – عرفان. وكان الرياضي والفيلسوف الفرنسي بلاز باسكال قد قال ذات مرّة ومنذ القديم (إن للقلب أسبابه التي لا يعرف العقل عنها شيئا) وكان لقوله في الفصل بين العقلي والعاطفي تأثير في التفكير التقليدي إلى أيّامنا. لكن العرفانيين يعتقدون في تلازم العاطفي والعرفاني، ومن أبسط الأمثلة على تلازمهما في معالجة اللغة، أن أجسادنا تعكس في الآن نفسه انفعالاتنا على صفحات وجوهنا ونحن نتحدّث بعاطفة ساحرة، أو بشدّة عنيفة. في سياق الدعاء عموما لا بدّ أن يكون من يصدر الدعاء محافظا على الرتب التي تجعل الإنسان الداعي مؤمنا خانعا في وضعية دنيا، ويكون الله وجهة الدعاء في وضع علوي والعلوية ههنا في الخطاب لا تمسّ من علويته الأبدية بالنسبة إلى المؤمنين.
في سياق الآية السابقة لا بدّ من الاعتماد في مسار التفسير على ما يسمّى المطَّلع Vantage Point وهو الموقع الذي يتموضع فيه الداعي ويطّلع منه على ربه وهو يدعوه. في هذا المطّلع جمع بين مطّلع ذاتي يطلّ فيه النبي زكريا على حاله وقد بدا شيخا واهن العظم (العرف الباطن الذي يقيم الجسد: الحركي) كثير الشيب مشتعله (الظاهر الذي يراه عليه الناس: البصري الاجتماعي) هذا التصوير يجعلنا نرى ذاتا مؤمنة بما لديها، لكنّها غير مسلّمة بما تريد. معالجة فعل الإنجاب لا تنفصل عن عاطفة ترى فيها الذات نفسها رؤية لا تحملها إلى فعل الإنجاب، الذي رمز لاستحالته بعناصر جسدية غير مباشرة كانت ترمز للعناصر البشرية الفعلية. السياق الدعائي هو الذي باعد بين المعنى المراد والمعنى الصريح، هو ضرب من رؤية تريد لو تقرب الجسد فتركز فيه على ما يوحي بالوهن الإنجابي، ولا تقربه خشية من الله وخشية من هتك الستر. في هذه الحالة لا يمكن فهم العناصر الجسدية الموصوفة بعيدا من عاطفة من يعالج وصفها وهو المتكلم عن نفسه، يريد أن يصف و لكنّه يرمّز ويقيس ويقرّب ولا يقع على المعاني الحقيقة، خجلا من وضعه البشري عموما ووضعه داعيا ربّه من ناحية أخرى.
المُطّلع الإلهي هو في الدعاء الذي يجعله الداعي يتعامل معه على أنّه أداة مبطلة لكل عجز ونافعة في أمل الإنجاب، والدعاء هو قول يعالج بنيّة من يقبل آملا مصدقا على ربّ وهو إقبال مشحون عاطفة: النيّة بالمعنى الديني في الدعاء أن تعتقد في قدرة من تدعوه على الفعل والعاطفة أنّك تعالج ما تطلب وأنت مزدوج الحسّ: حسّ يضعك في مرتبة من لا يستطيع وآخر يضع ربّك في مرحلة القادر على ما لا يستطاع : الخلق رغم وهن العظم وتوقف أسباب الإنجاب.
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسيّة
“القدس العربي”