أضعت على نفسي أكثر من ستين خبرا. لم أستطع أن أتبيّن حتى عناوينها فيما هي تتتالى على الكمبيوتر بسرعة لا أعرف كيف أبطئها. أي أن الاخبار الستين امحّت كلها في أقل من عشرين ثانية. وقد بدا لي أن ذاك الموقع يعاقبني لكوني لم أكن حاضرا لأقرأ كلّ خبر في حينه.
صحيح أنني كنت أتابع الأخبار في النشرات التلفزيونية وعبر التطبيقات التي يرسل كل منها ما يزيد على تسعين فلاشا في اليوم، إلا أنني أشعر، بسبب فوات تلك الأخبار الستّين، بأن هناك أمورا حصلت حولي دون أن يكون لي فيها علم. وهذه قد تكون أمورا صغيرة، قليلة الأهمّية، من نوع الخبر عن محاولة السرقة الفاشلة التي حدثت في منزل في إحدى قرى أميون ولم يتمكّن مرتكبها من الفرار.
تلك المواقع ينبغي أن أظلّ محاطا بأخبارها دقيقة بدقيقة لأعرف أين أنا، وعلى أيّ أرض أقف. من الضروري أن أعرف مثلا أين صار سعر الدولار حتى دون حاجة بي للذهاب إلى الصرّاف. من الضروري أيضا أن أظل متعقّبا حدوث الهزّات والزلازل لحظة بلحظة لأعرف، أو لأتوجّس، متى ستصل إلينا. ناهيك عن انتظاري الساذج، والملحّ أيضا، لانتخاب رئيس للجمهورية وبدء الخروج الفوري مما نحن فيه. عليّ أن أعرف كل ذلك، طالما أنا أتنفّس، هكذا، تماما مثلما أجدني ملزِما نفسي بمتابعة أين أنا من الوقت، لحظة بلحظة، كما لو أن في داخلي دقّات ساعة لا أتوقّف عن سماع تكّاتها.
كثيرا ما أتذكّر شريط الفيديو الذي يحفظ المقابلة التي أجريت مع الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار. أول ما بادره به محاورُه هو سؤاله عن إبقائه راديو الترانزستور إلى جانبه فيما هو يقرأ ويكتب. أهدتني إيّاه ابنتي أجاب باشلار، «وها إني، إذ أستمع إلى موجز الأخبار كل ساعة، أجدني عارفا بكل ما يجري وأنا قابع هنا بين كتبي». كان الترانزستور في بدايته حينذاك، رابطا الأخبار بالتوقيت، وليس بما كان يحدث من قبل حين كان الخبر يصل إلى سامعه بالتواتر. وها إني أجد نفسي مضيّقا المسافة بيني وبين الأخبار، مسرّعا وصولها إليّ غير متأخرة ساعة كاملة كما كانت الحال مع باشلار، بل إن ما يسمّى الأخبار لم يعد يقتصر على الحوادث الكبرى، كما في ذلك الزمن، من قبيل سقوط القنبلة الذرية على هيروشيما معلنة دخول الولايات المتحدة طرفا في الحرب العالمية، بل انخفض إلى ما كنا نسميه، أيام العمل في الصحافة، الصفحات الداخلية. ثم إننا نزلنا إلى ما هو أقل أهمية من متابعة الصحيفة لانقطاع المياه عن قرى في منطقة الهرمل مثلا. فما بات يأتينا به الفلاش، المترافق مع إعلان صوتي خاطف يهتز له التلفون المحمول، لا يتعدّى غالبا خبرا لا يستحقّ أن يُنقل أو يُذاع. أقصد أشياء من نوع أن جلسة انتخاب الرئيس التي كان من المنتظر ألا تُعقد، لم تُعقد.
هي أخبار أخبار أخبار على غرار ما قال هاملت «كلمات كلمات كلمات». أخبار تأخذنا إلى ما لم نعتبره في عداد الأخبار ومن صنفها. معها صرنا نعرف الكثير الكثير عن المنتحرين كل يوم، وعن التقدّم في علاج مرض السرطان، وعن أن الأسد، المفترض كونه ملك الغابة، ليس كذلك دائما، إذ يبدو أنه كان يُهزَم أحيانا من الثيران التي كانت تغرز قرونها في بطنه.
هي أخبار كثيرة تأتينا مع مرور الدقائق، نلقي نظرة قارئة ومحاذرة على الهاتف المحمول المركون على الطاولة أمامنا لئلا يلاحظ مَن يحادثنا أننا غير مكترثين بما يقول. هي أخبار تتّسع وتتنوّع ذاهبة بنا إلى الحرص على معرفة كل شيء وفي كل وقت. لم يكن الأبستيمولوجي الفرنسي مثلنا. كانت الأخبار التي يسمعها أخبارا حقيقية وإلا كان سيخجل لو كان يسترق النظر إلى شاشة الهاتف ليقرأ عن حادث اصطدام لم يتأذّ به أحد، «حديد بحديد» حسبما علّق الموقع في نهاية السطر الذي أذاعه علينا. ***
أتذكّر من زمن الأخبار القديم رجوع جدّي مسرعا من الدّكان الذي كان يجلس فيه مع رجال من الضيعة. كان يركض في الدار وهو يردّد ما سمعه من راديو الدكان: «ألأسطول الأمريكاني وصل لعندنا». ربما كان ذلك في أيّام كميل شمعون. لكن ما بقي عالقا في ذهني، أنني رأيت جدّي مكترثا إلى هذا الحدّ بخبر سمعه. ربما لأنه خبر وحيد جاءه بعد عشر سنوات من الخبر الذي سبقه وشغل باله.
كاتب لبناني