أتصور أن الخُلق الحق، كان يصدر دائما عن مرجعيات دينية، على اختلافها وتنوعها، ما يعني أن الأصل في الأخلاق هو الدين. فالدين، في نظر طه عبد الرحمن «يجيب أساسا عن السؤال المحدد للهوية البشرية، وهو كيف أكون على خلق» (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي) فضلا عن هذا، يختص الدين، دون غيره من الدساتير الوضعية، بعنصر النفاذ إلى كل الظواهر السلوكية النفسية، والمعنوية المتمنعة دوما، والتي تلعب دورا رئيسيا في الإجهاز على كل ما هو سام وجميل، وذلك بقصد المحاسبة والتقويم.
إن مظاهر القبح التي تلف حياتنا المعاصرة، سببها الرئيس، التجرد الكلي من الوازع الأخلاقي الديني، وكذا الارتماء المفرط في مستنقع الماديات، والحسّيات المشيّئة للإنسان. والحاصل إن السبيل إلى الامتلاء الروحي، أو كما سماه أحدهم بالأمن الروحي، هو التوسل بالتربية الخلقية الدينية، والتشبع بها. يقول الباحث منير القاديري بودشيش «لا أمن حضاري دون أمن روحي ، ولا أمن روحي دون أخلاق، ولا أخلاق دون دين، ولا دين إلا بالتكامل بين ما هو روحي ومادي، وما هو قلبي وعقلي، وما هو دنيوي وأخروي، وما هو شرع وحقيقة، ولا يتحقق هذا التكامل إلا بتربية صوفية ممنهجة ومؤطرة» (مجلة الإشارة).
ولما كان الدين الإسلامي هو خاتم الأديان السماوية، انتهى صاحب مشروع (تخليق الحداثة) طه عبد الرحمن، إلى أن الجواب الأخلاقي الذي من شأنه قهر العولمة في بعدها السلبي، الذي يسلب الإنسان إرادته، هو الدين الإسلامي وليس غيره.
فليس من شك في أن الإسلام قد احتفى بالإنسان في بعده ورمزيته، وسعى إلى الرقي به إلى مداه النقي، ونبعه الصافي، عبر تخليقه وتهذيبه، خصوصا إذا ما علمنا أن جوهر الدين الإسلامي خُلقيٌّ بامتياز، ذلك أن الإسلام جاء ليكمل النقائص التي في أخلاق العرب. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وبهذا النزوع يكون الإسلام قد أسس، عبر منهجه القويم، الأرضية الصلبة لممارسة ثقافية وحضارية متفتحة على الزمان والمكان، إلا أنه ينبغي أن لا تغيب عن أذهاننا حقيقة مفيدة، وهي أن مقولة الأخلاق ليست بالضرورة دينية. فهناك مرجعيات أخرى لهذه المقولة، كالأخلاق العلمانية، التي تحتكم إلى قيم الحداثة النبيلة، من مثيل الديمقراطية والعقلانية والاختلاف، في سبيل تنظيم العلاقات بين الأفراد ضد كل أشكال العنف والإقصاء والتهميش. لذلك فإنني، عندما لوحت بالدين الإسلامي، كمنهج قويم ومتفتح، الآن وهنا، فلإيماني القوي بمدى قدرة هذا الدين الحنيف، أكثر من أي عقيدة أخرى، على استيعاب كل الأطياف، دينية كانت أم علمانية، بأريحية كبيرة، مما لا يدع مجالا لأي نوع من الإقصاء أو التهميش.
فلا شك في أن الإسلام بمكنته أن يشكل وعاء لمنظومة خُلقية كونية، يتعايش فيها الأنا والغير. لنتأمل هذا النص العميق لفيلسوف المستقبليات المهدي المنجرة، وهو يدافع عن الإسلام كمنهج في الحياة، يقول فيه: «من المهم الإشارة إلى أن الجهود المبذولة لزرع النموذج الغربي للتنمية، قد فشل عبر أنحاء العالم الثالث، لأن هذه الجهود أهملت مشكلة القيم الثقافية، وقد أثبت الإسلام أنه قوة ثقافية كبيرة، استطاعت مقاومة كل التأثيرات الخارجية التي تناقض قيمها الأساسية، كما أظهر الإسلام أيضا قدرته على التلاؤم والتطور، عبر التاريخ، بطريقة ذاتية» (حوار التواصل، سلسلة شراع، عدد1 مارس 1996).
هل في إمكان العقل العربي أن يكون في مستوى الرهان اليوم، وأن يجاري المتغيرات المتسارعة عالميا، وأن يفتح أفقَ هويةٍ جديرةٍ بالألفية الثالثة، هوية قادرة على جعل العربي يتصالح مع ذاته من جهة، ومن جهة أخرى قادرة على تصحيح الصورة النمطية التي يحملها الآخر عنه؟
وفي داخل هذا الوعاء الديني، نعثر على مسلك قويم، صالح لتقويم هويتنا المتعددة والمتجددة، بما يضمن مصلحة كل طرف، دون أن يؤثر ذلك سلبا على مصلحة الهوية العليا، وأقصد بذلك التصوف، كمسلك سلوكي وتربوي، لا كمسلك هروبي- استسلامي. والحق أن المشروع الحداثي الغربي، على الرغم من سلبياته، فقد أسس لبعض القيم الإنسانية النبيلة، كالمساواة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، كما أسلفت، وهي التفاته إيجابية جدا تُحسب له، ولا يمكن أن ينكرها سوى جاحد. القيم نفسها نجدها مبطنة في مدونة الدين الإسلامي، وأخرى عديدة يضمها لا تعد ولا تحصى، وإن كانت القراءة الرسمية للإسلام، القراءة التي تحكمت فيها السلطة المركزية تاريخيا، قد غيبتها انطلاقا من تأويلات مغرضة تعللت بفكرة الإجماع، تأويلات تحكمت فيها مصالح السلطة المركزية أولا وأخيرا. إلا أنه، على الرغم من ذلك، كانت هناك بعض القراءات المتحررة، والمتنورة للنص القرآني (لعل أهمها المشروع الصوفي) وإن تعرضت للإقصاء والتهميش والطمس، قد تبنت هذه القيم، واعتقدت بها فكرا وسلوكا، كالمحبة والتسامح والحرية والحوار. هي قيم تتطابق في مضمونها، لا شك، مع قيم المشروع الحداثي في جانبه الإنساني. ومن هنا تأتي مشروعية وإمكانية الاستفادة من هذا المشروع، في طريقنا، نحن العرب المسلمين، لبناء هوية ثقافية متخلقة وآمنة، هوية يتصالح فيها الحداثي مع الصوفي، والعقل مع الحدس، والحقيقة العلمية مع الحقيقة القلبية. يقول الإمام الغزالي عن حقيقة الصوفية، وهو أعرف الناس بأحوالهم وحقيقتهم «الصوفية هم السالكون طريق الحق خاصة، وإن سيرهم من أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، ولو اجتمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئا من سيرهم، ويبدلوه بما هو خير، لم يجدوا إليه سبيلا. فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظواهرهم وبواطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة. وليس وراء النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به».
إن التصوف بعدّه مسلكا تربويا قويما، يغذي الروح، ويُصلح حال الفرد والمجتمع، ويبذر فيهما بذور المحبة والتسامح والحوار، يعتبر سبيلا آمنا، كفيلا بإنقاذ البشرية من همجية عولمة جارفة ومائعة. فالتصوف، كمشروع ثقافي كوني، يطبع الفرد بالسلوك الكريم، ويحيي الضمير لديه ، والشعور بالمسؤولية، ومحاسبة النفس، ومراقبة الله سبحانه وتعالى له على الدوام. إنه أوج المثالية الخلقية، وحامل لوائها، التي قد ترفعنا إلى مراتب أرقى المجتمعات. إن التصوف الإسلامي، كمنهج خلقي وتربوي، ما فتئ يدافع عن قيم إنسانية سامية كالمحبة والتسامح والحوار، واعتبرها مرتكزات أساسية في فلسفة التصوف (نظرا وممارسة). يقول ابن عربي/الشيخ الأكبر، مختزلا كل هذه المكتسبات الإنسانية النبيلة، في مقطع شعري رائع وبديع:
لقد صار قلبي قبلا كل سورة فمرعى لغلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني.
والأكيد أن المحبة الصوفية، والتسامح، والحوار، بوصفها قيما إنسانية يمكن المراهنة عليها، سواء في علاقتنا مع ذواتنا أو مع الآخر، أقول إن هذه القيم ستشكل لأمتنا العربية الإسلامية، لا محالة، أفقا إنسانيا وكونيا، من شأنه أن يصحّح صورة العربي والإسلامي في معتقد الآخر، وأن يعيد الاعتبار لدينه أولا، ولنفسه ثانيا. فبالحوار مثلا، يمكننا أن نتفادى صراعات لا طائل منها، قد تستمر قرونا طويلة. يقول المهدي المنجرة في هذا الإطار: «إذا كان على المرء أن يحتفظ بصفة واحدة فقط تتلخص في الإسلام، فإن هذه الصفة ستكون الحوار دون شك. فالإسلام معروف من قبل المسلمين على أنه دين الحوار. والحوار موصوف أيضا على أنه لغة الأنبياء».
أما بعد، وقد تحققت أهمية الأخلاق في عالم يفور ويمور بالعنف بدل المحبة، والرطانة واللا أدرية بدل المعنى والجدوائية، بات من المفيد أن نتساءل:
أليس الفعل الخلقي، بتأويلاته المتعددة، هو الضامن الحقيقي لصمود هويتنا الثقافية أمام هذا المد الثقافي المتوحش (الأمركة) الساعي إلى تنميط العالم ثقافيا؟
أليست العولمة مُناسَبة لخلخلة نسقنا الثقافي العربي، ونبذ كل ما هو ثابت فيه، ومناسبة كذلك لتلقيح ما هو متحول بالمكتسبات العالمية، على اعتبار أن العالمية هي تلاقح طبيعي بين الثقافات؟
هل في إمكان العقل العربي أن يكون في مستوى الرهان اليوم، وأن يجاري المتغيرات المتسارعة عالميا، وأن يفتح أفقَ هويةٍ جديرةٍ بالألفية الثالثة، هوية قادرة على جعل العربي يتصالح مع ذاته من جهة، ومن جهة أخرى قادرة على تصحيح الصورة النمطية التي يحملها الآخر عنه؟
كاتب مغربي
“القدس العربي”