تتسابق دول عربية عدة إلى طي صفحة الماضي مع النظام السوري، لأسباب متعددة، فرضتها المتغيرات العالمية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، والموقف الغربي من برنامج إيران النووي، إضافة إلى حاجتها الملحة إلى ضرورة الخروج من الرمال المتحركة في اليمن ووقف التهديدات الأمنية التي تمثلها جماعة «أنصار الله» (الحوثي) ضد السعودية والإمارات. كل هذا وحسابات أخرى دفعت إلى إعادة تموضع استراتيجي، رفضت من خلاله الدول العربية المعنية أن تبقى تعمل في المسار الذي ترسمه لها أمريكا منذ تأسيسها.
وقد بدأت أبو ظبي محاولات إعادة تعويم نظام بشار الأسد، ثم سعت عَمّان لأسباب اقتصادية أصبحت أكثر الحاحاً مع انتشار وباء «كوفيد- 19» واليوم تصل تلك المحاولات إلى الرياض التي تسابقت مع الدوحة من أجل دعم المعارضة السياسية وتسليمها مقعد جامعة الدول العربية مطلع عام 2013 إضافة إلى انخراط كل مطبعي اليوم بدعم غرفة العمليات العسكرية التي قادتها واشنطن لدعم فصائل الجيش الحر وقبلها دعم تلك الدول «هيئة الأركان» المعارضة التي تأسست نهاية عام 2012 بقيادة المملكة العربية السعودية في مؤتمر انطاكية بتركيا.
ويعتبر تحول الموقف التركي من النظام السوري واحدا من أهم أسباب استعجال بعض الدول للتطبيع معه، فهي لا ترغب أن تبقى خارج معادلة الحل في سوريا وأن تسلم بقسمة الكعكة السورية بين دول صيغة أستانا الثلاث.
ووجدت الدول العربية الراغبة بالتطبيع مع نظام الأسد وقوع زلزال 6 شباط (فبراير) فرصة لإعادة العلاقات من باب المساعدة الإنسانية، حيث فتحت دولة الإمارات جسرا جويا باتجاه مناطق سيطرة النظام تضمن عشرات الطائرات. ولم يقتصر الدعم على الجانب الإنساني فقد توجه الشيخ عبد الله بن زايد عدة مرات إلى دمشق التقى فيها الأسد وحاول جاهدا إقناع الإدارة الأمريكية تغيير موقفها في التعاطي مع دمشق لغايات إنسانية، غير ان اللقاء مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، لم يغير من الموقف الأمريكي تجاه نظام الأسد.
وفي المواقف المعلنة من إعادة علاقات الدول العربية وتركيا مع النظام، قال المندوب الأمريكي في مجلس الأمن خلال جلسة عقدت الخميس، إن بلاده لن تطبع علاقاتها مع نظام الأسد وأنها «لا تشجع أحداً على ذلك». وأضاف نائب السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة جيفري ديلورانتس، أن نظام الأسد «رفض كافة الحلول السياسية المباشرة، وعرقل عمل اللجنة الدستورية، وواصل اعتقال المدنيين. إضافة إلى أنه «أغرق المنطقة بالمخدرات».
من جانبه، شدد المندوب الفرنسي في مجلس الأمن على أن الحل في سوريا يجب أن يُنفذ وفق القرار الأممي 2254 لافتاً إلى أن الحرب في سوريا لم تنته، وأن الأوضاع داخلها لا تسمح بعودة اللاجئين. واتفق المندوبان الفرنسي ومندوبة بريطانيا، على تحميل روسيا مسؤولية تعطيل اللجنة الدستورية.
وتأتي التصريحات الأمريكية فيما يخص التطبيع مع الأسد عقب أيام قليلة على اجتماع رباعي ضم كلاً من وزراء دفاع ورؤساء استخبارات روسيا وتركيا وإيران وسوريا، وهو اللقاء الثاني خلال العام الجاري، إلا أنه ضم في هذه النسخة، وزير الدفاع الإيراني محمد رضا أشتياني.
وأصدرت وزارة الدفاع التركية عقب الاجتماع بيانًا، أوضحت من خلاله أن اللقاء الرباعي ناقش الخطوات الملموسة التي يمكن الاعتماد عليها في مسار تطبيع علاقات أنقرة مع دمشق. وأضاف البيان الذي وصف أجواء الاجتماع بـ «الإيجابية» أن اللقاء ناقش مسألة مكافحة التنظيمات الإرهابية على الأراضي السورية، كما ناقش مسألة عودة اللاجئين. وشدد البيان على ضرورة استمرار اللقاءات الرباعية لضمان الاستقرار واستدامته في المنطقة.
وقال وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، من مطار فنوكوفا في موسكو عقب اللقاء، إن أنقرة تسعى من خلال اللقاءات الرباعية لتحقيق الاستقرار والسلام في المنطقة، مشيراً إلى أن المشاركين في الاجتماع الرباعي تبادلوا الأفكار حول القضايا المختلفة، وأجمعوا على أن مثل هذه اللقاءات تمثل أولوية من أجل السلام في المنطقة، وأكد أكار أن الأيام المقبلة سوف تشهد لقاءات مماثلة، لافتًا إلى أن أنقرة تهدف من اللقاء الحد من موجة اللجوء من سوريا إلى الأراضي التركية، مشيراً إلى أن ذلك لا يتم إلا من خلال تهيئة الظروف المناسبة لعودة اللاجئين، بما يضمن عودتهم الطوعية الآمنة.
وفي هذا السياق، شدد الوزير التركي على أن بلاده لا تقدم على أي خطوة من شأنها أن تضع «الأخوة السوريين، في تركيا أو سوريا، في مأزق». وأفاد الوزير أكار بأن بلاده أكدت خلال اللقاء على أن القرار الأممي 2254 هو الحل الأمثل والأشمل للأزمة السورية.
وعلى نقيض بيان وزارة الدفاع التركية، وتصريحات الوزير أكار، أصدرت وزارة الدفاع في حكومة نظام الأسد بيانًا نفت من خلال مضمونه ما ورد في بيان الدفاع التركية، وأكد البيان أن اللقاء الرباعي بحث فقط في «انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، وتطبيق الاتفاق الخاص بالطريق الدولي المعروف باسم طريق M4»».
وبخلاف البيانين، لم تشر وزارة الدفاع الروسية في بيانها عقب الاجتماع الرباعي عن تفاصيل المواضيع التي ناقشها ممثلو الدول الأربع، وجاء في بيان الدفاع الروسية «ناقش الاجتماع الخطوات العملية في مجال تعزيز الأمن في الجمهورية العربية السورية، وتطبيع العلاقات السورية التركية».
الجدير بالذكر، أن التضارب بمضامين بيانات وزارتي الدفاع التركية والدفاع السورية، يشير إلى صعوبات كثيرة تعترض مسار التطبيع بين الطرفين، ففي حين تعرب أنقرة عقب كل لقاء عن إيجابية وأهمية اللقاءات والمشاورات، وتؤكد على ضرورة محاربة التنظيمات الإرهابية، تناقضها تصريحات وبيانات رسمية وغير رسمية في نظام الأسد، وتؤكد جميعها على شرط انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية.
ومن ذلك، تصريحات لصحيفة «الوطن» المقربة من النظام، لمسؤول لم تورد اسمه كذّب بيان وزارة الدفاع التركية، ونقلت عن المصدر، قوله «لا صحة لبيان وزارة الدفاع التركية، وما جاء فيه عن الحديث حول خطوات ملموسة متعلقة بتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق» وربط المصدر العلاقات الطبيعية والتطبيع بين تركيا وسوريا بانسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، مشترطاً انسحابها لبدء تطبيع العلاقة بين الدولتين.
وفي تتبع سياق اللقاءات والجهود المبذولة في سبيل التطبيع الذي ترعاه موسكو، يلتزم نظام الأسد بالتأكيد على ان المسار مرهون بشرط «انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية» وذلك من خلال دبلوماسيته المتمثلة بوزير الخارجية فيصل المقداد، أو رأس النظام بشار الأسد، أو من خلال مصادره الإعلامية المقربة مثل صحيفة «الوطن».
بالمقابل، التزمت أنقرة وممثلوها خلال مسار التطبيع التأكيد على ان وجود القوات التركية في سوريا مرهون بالتنظيمات الإرهابية المنتشرة على حدود تركيا، ومتفائلة باللقاءات والمشاورات، مع إطلاق تلميحات متكررة عن إمكانية عقد لقاء قمة يجمع الرئيس اردوغان برئيس النظام بشار الأسد. وكان آخر هذه التصريحات ما أدلى به وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، خلال مقابلة مع صحيفة «Hürriyet» حيث قال إن «اشتراط نظام الأسد انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية للمضي في المباحثات ومسار التطبيع يشكل خطراً كبيراً على تركيا» مضيفاً «نسعى جاهدين للحفاظ على الاستقرار والسلام الدائم، وهناك قرار من الأمم المتحدة، وعملية سياسية مستمرة، وبدونها لن يكون انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية ذو فائدة» مشيراً إلى ان المنظمات الإرهابية سوف «تملأ الفراغ الناجم عن انسحاب قوات بلاده».
حول متابعة اللقاءات في إطار مسار التطبيع، كانت أنقرة تتوقع عقد اجتماع رباعي على مستوى وزراء الخارجية بناء على المعلومات الروسية، إلا أن زيارة مقررة للرئيس الإيراني إلى دمشق حالت دون ذلك. وأفاد جاويش أوغلو، بإن التقارب بين أنقرة ونظام الأسد من شأنه أن يزعج أمريكا لما سيشكله هذا التقارب من خطر على قوات سوريا الديمقراطية «قسد» المدعومة من واشنطن.
بدورها علقت الخارجية الأمريكية على الاجتماع الرباعي، واعتبرت أن إنهاء الصراع في سوريا يتطلب «تنفيذ القرار الأممي 2254 وهو الحل الوحيد الذي يمثل إرادة جميع السوريين». وكررت الإدارة الأمريكية في تعليقها ذاته، «أكدت لشركائها الإقليميين، الذين هم على اتصال مع النظام السوري، أن الخطوات الموثوقة لتحسين الوضع الإنساني والأمني للسوريين يجب أن تكون على رأس أولويات وفي قلب أي اتصال».
ويشير ذلك، إلى موقف الإدارة الأمريكية من تسارع وتيرة التطبيع العربي مع نظام الأسد أيضاً، والتي لم تقف عند التطبيع التركي مع الأسد، والحديث عن عودته للجامعة العربية، وعلى ما يبدو من بيان الخارجية الأمريكية أن التطبيع بات أمر واقعا، والمرحلة الحالية تقتضي من حلفائها أن يحددوا أولوياتهم من عملية التطبيع مع الأسد.
وفي إطار عودة نظام الأسد للجامعة العربية، قال أمينها العام، أحمد أبو الغيط، خلال مقابلة تلفزيونية مع تلفزيون «الجديد» اللبناني «إن رئيس النظام بشار الأسد ربح المعركة» عندما حسمها عسكرياً. واعتبر عملية طرد النظام من الجامعة العربية بـ «الخطوة المتسرعة» مشيرا إلى عودته ممثلا للجمهورية العربية السورية بـ «الحتمية».
وتعارض خمس دول أعضاء في الجامعة العربية عودة النظام للجامعة، وهي قطر والمملكة المغربية واليمن والكويت ومصر. وتأتي معارضة الدول لأسباب متباينة قليلا فيما بينها، فحتى الأردن الذي كان سباقا لإعادة تعويم الأسد في وقت سابق، تعرض إلى ضرر كبير من هزيمة المعارضة في صيف 2018 فقد أصبح الحرس الثوري الإيراني على حدوده الشمالية وهو السباق في التحذير من «الهلال الشيعي» على لسان الملك عبد الله بن الحسين. وأدى ذلك إلى إغراق الأردن بالمخدرات على أنواعها، ويعزو الكثير من المطلعين أن شرط الأردن للتطبيع مع الأسد هو فقط؛ وقف تهريب المخدرات.
ومع تواصل الشكوى العربية وخصوصا لدى السعودية والأردن من قضية إغراق البلدين بالمخدرات، قام الاتحاد الأوروبي بمعاقبة قادة الميليشيات المتورطين بقضايا تهريب المخدرات إلى الرياض وعمان، والنشطين في محافظة درعا وهما، عماد أبو زريق ومصطفى المسالمة، الملقب (الكسم) ووسيم المسالمة التابعين لفرع «الأمن العسكري». كما أشارت القائمة إلى أن الثلاثة المعاقبين بقضايا صناعة «الكبتاغون» هم أبناء عم رئيس النظام السوري وهم وسيم بديع الأسد وسامر كمال الأسد ومضر رفعت الأسد. إضافة إلى قريبي العائلة جهاد بركات ومحمد شاليش.
المقلق في محاولات التطبيع أن تؤدي إلى شرخ عربي بين الراغبين والممانعين، فخفة السياسة الخارجية الواضحة وعدم الأخذ باعتبارات الأمن القومي وغياب الإستراتيجيات الرصينة والتهور لدى بعض الدولة العربية يرجح أن تؤول الخواتيم إلى انقسام عربي جديد. فالتعاطي مع بشار الأسد على أنه انتصر في الحرب ويجب مكافأته بالعودة إلى عضوية الجامعة العربية زلة خطيرة من أبو الغيط، تضفي صفة بغيضة على المنتدى العربي، تجعله يوصم باعتباره نادي للقتلة ومجرمي الحرب، ويشرعن فكرة القتل والإبادة على قضية العدالة.
“القدس العربي”