يدرك جميعنا أن الأبجدية أحدثت قطيعة في نقل اللغة نقلا كتابيا، استئناسا بالمفهوم التأليفي المملى عليها؛ ولكن ذلك لا يعني أن الكتابة تابعة للفظ أو هي في خدمة الصوت ليس إلا؛ وكأنها لا تعدو أكثر من تصوير للأصل، كما يؤكد جاك دريدا. على أنني لست بصدد عرض نظريته هو وغيره من أمثال لوروا غوران وجاك غودي، وإنما الإفادة مما هو على صلة فيها بموضوع هذا المقال.
فغوران يستند إلى تفكير قياسي، ويعد الخط مكونا للكتابي، لأنه تمثل السلطة تمثلا بَدَهيا أو طبيعيا. وما دامت الآثار الخطية تظهر «الدينامية» الحركية، فإن الخط كان يوعز «دينامية» الكلام. وهذا منحى في تفسير نشأة الكتابة أو تعليلها، لا يناسب نظرية دريدا في الخط والكتابة. فما يعنيه من الخط ومن نشوئه كونه سمة غياب (غياب المتكلم والمخاطب والمعنى المستقر في وعي المتكلم الغائب) مقابل حضور هذه العناصر الثلاثة في حال اللفظ، عند القائلين بأسبقيته.
والأمر يتعلق بـ»النفعية» التي هي إحدى مزايا الكتابة، إن لم تكن أظهرها، أي حفظ الشفهي من الضياع والتلاشي. يقول غوران:» الكتابة تضمن للمجتمع الحفظ الدائم لمنتوجات الفكر»، بما يعنيه ذلك من حفظ الذات والمحافظة على الكيان والاحتفاظ بالتراث ورموزه. وهذه «مُسلمة» تثير من الأسئلة أكثر مما تقدم من الأجوبة: فَبِمَ يتعلق هذا «الدوام» دوام الحفظ؟ أبِالكتابة أم بحاملها؟ وقد تقلب هذا الحامل منذ الكتابة على الحجارة والطين، في مواد كانت تزداد هشاشة من حقبة إلى أخرى، حتى أن معالجتها المستديمة كثيرا ما جعلتها غير صالحة للاستعمال، كما هو الشأن في نسخ كثيرة من المخطوطات والآثار. ولم يكن الحامل فيها كلها من الصلابة، بحيث يهب الشفوي حياة أصح وأوفر، بل ربما كان في حالات غير يسيرة، مجردا من قوة الحفظ عاطلا.
غير أن الكتابة من حيث صلتها بالنظر أو العين وهي الحاسة الأثيرة في القرآن مثلا، قد تكون أكثر روحانية من الكلمة الشفهية التي تتوجه إلى الأذن. وليس بالمستغرب أن يعلن منذ سورته الأولى «العلق» هجران عالم الكلمة الشفهية التي التبست بالشعر وشياطينه، وأن يحتفي بـ»كتاب غير مكتوب» (القرآن وهو يوحى)، وأن يتوسل بما تتوسل به الكلمة الشفهية وهي تتأدى دون حامل مرئي محسوس ودون مادة. و»الكتاب» بهذا المفهوم تصور لكتابة متحررة من كل جسمانية، سواء أكانت «أيقونية» أم قولية؛ فهي كتابة «غير مرئية» مفصولة عن الجسم متجردة من المادة، وليس مرد الأمر إلى أن القرآن نص مقروء مسموع أبدا وحسب، وإنما إلى «الصوت الباطني الخافت»، أو ما يمكن أن نسميه «التصويت الباطن» حيث تتوحد الكتابة الطبيعية مباشرة بالصوت والنفس، وتحصل القراءة أو (التلاوة) أو الخطابة أو إنشاد الشعر، على أساس من تحويل الاستدلال الإملائي إلى كلام باطني، وتتحقق مطابقة الكلمة بوساطة إجراءات قائمة في تنصت الكلام.
فثمة تعالق بين الكتابي والشفوي نلمسه في نظرية جاك غودي، وهي النظرية التي تعنى بدور التفكير الخطي في تاريخ الكتابة، فإذا كان للكتابة من سلطان فمرده إلى العقلية الخطية التي أملتها على اللغة وألزمتها إياها، لأن الكتابة ليست مجرد تسجيل محكي للكلام، وإنما هي أسلوب مخصوص في معالجة الأشياء والموضوعات؛ من حيث التحديد والتقسيم وشد الروابط وعقد العلائق ورد الأشياء على اختلافها إلى طبقات وأنواع وطوائف وأجناس. وهذا ما يفسر، في نظر غودي، التعارض القائم بين «الكتابي» و»الأمي»، أو بين العارف بالكتابة والجاهل بها، وقدرة الأول على التأثير في الثاني، بل التحكم فيه.
وكل هذا إنما يجري في سياق التفاعل بين الشفهي والكتابي، حتى في المجتمعات القديمة، حيث عامة الناس لم تكن تقرأ ولا هي تكتب، ولكنها تشارك وإن ضمنا، في سن التقاليد وفي تناقلها شفهيا، حيث الكلمة المكتوبة هي الكلمة المنطوقة ذاتها. والقرآن كالشعر مقروء مسموع أبدا، أو هو يقوم مقام الشاهد أو الدليل في التخاطب الاجتماعي العام. وكأن فهمه أو الاستدلال به ما كان ليتيسر إلا في سياق من استظهاره أي من شفهيته. إذا استتب لنا القول بأن الكتابة سلطة وأن هذه السلطة مناطة بقيمة الكتابة الاجتماعية، أدركنا أن الجهل بالخط، لا يعني ضرورة ليس الجهل بالكتابة. من ذلك أن كتابة القرآن كانت تتأدى بواسطة الإملاء على كتبة الوحي، على نحو ما كان يتأدى الشعر قديما؛ ولكل شاعر من الفحول رواته الذين ينقلون عنه القصيدة مكتوبة أو مشافهة.
وما يقول الخطابي عن القرآن، يشمل في تقديرنا الشعر: «قلت في إعجاز القرآن وجها آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ ممن أجاد منهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب وحلاوة في حال، ومن الروعة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حقها منه عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق».
ولا شك في أن النص المحكم في صيغه وتراكيبه، لا يمكن إلا أن يستدعى أداء مبنيا»؛ لأن الأمر لا يتعلق بنص يرتجل، وإنما بنص «يمليه» صاحبه على نفسه قبل أن يمليه على غيره، ويؤديه تحت رقابة «الأذن الداخلية،» وفي حيز «الخطاب الصامت» وهو «كتابة» غير مرئية. ومثل الصنيع يتيح للشاعر مثلا، أن يتعهد قصيدته، فيتوقف ويتلبث ويقلب مقوله على أكثر من وجه وصورة، فيحذف ما يحذف، ويغير ما يغير، في عملية كتابية حاملها الذاكرة؛ أي هي سابقة على الكتابة المرئية، التي حاملها الخط. لنقل إن الكتابة بهذا المفهوم تنوب عن «التفاعل» الشفهي، وتعزز رأينا في أنه لا وجود لـ»أدب شفهي»، والقصيدة الجاهلية قصيدة «منجمة»، كما كتبت في مقال سابق، أي هي نص يمكن أن يحد من حيث هو أداء كتابي، حتى إن جاء بصيغة صوتية غير مخطوطة. فهو نص «يُملى». ووضعية الإملاء تتيح لصاحب النص أن يتعهد نصه المثبت في الذاكرة، حذفا أو زيادة أو تغييرا وأن يمليه دونما استئناس بنص مخطوط. والإملاء كتابة وليس ارتجالا. على أن هذا الأدب الذي نسِمُه بـ»الشفوي» يظل محكوما بهيئة من التأليف شبه شفوية وهيئة من التأليف كتابية أو شبه كتابية. ومن هذا الجانب فإن» التأليف الشفهي» في ثقافة كتابية، أو هي عرفت الكتابة بنسبة أو بأخرى، لا يمكن إلا أن يختلف عن « قرينة « في ثقافة شفهية خالصة. ومهما يكن فإن سلطة الكتابة مناطة بنوع الكتابة أو بمفهومها، أكثر منها بكمها أو بمدى ذيوعها وانتشارها، بل هي تتعلق بما هو منضو إلى النوع و»الحسن» و»الممتع» أو الراجع إلى الوظيفة الشعرية أو الجمالية، أو إلى «الغريب»، أو «غير المتوقع».
وما يقول الخطابي عن القرآن، يشمل في تقديرنا الشعر: «قلت في إعجاز القرآن وجها آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ ممن أجاد منهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب وحلاوة في حال، ومن الروعة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حقها منه عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق».
وفي الشعر الذي ننعته بـ»الشفوي» تحمل الكلمة فضل معنى على أساس من التأثير في البنية والنغمية والأصوات والإيقاع والصورة وما إليها، بما يجعل الإنشاد شأنه شأن التلاوة، أشد أثرا وأكثر إمتاعا قراءة أو سماعا، بل هي تعزز الوظيفة التنبيهية التي تسائل المخاطب أو المرسل إليه، وتقحمه في الخطاب وتذكي فضوله. وكثيرا ما يتأدى ذلك بوساطة الاستفهام أو المساءلة ـ وهو من ثوابت هذه الوظيفة؛ إذ يقود إلى استجابة متوقعة من المخاطب المنشد إلى الرسالة. وتكمن دلالة كل من هاتين الوظيفتين في نوع من بلاغة الحجاج أو الإقناع أو في نداء باطني يذكيه شعور المخاطب بأنه مدعو إلى القيام بعمل ما. ولو كان المجال يتسع، لفصلت القول في «القافية»، وفي «الفاصلة» القرآنية؛ وكلاهما أشبه ما يكون بـ»ذاكرة إيقاعية» وأداة تواصل بين المنشئ والمتقبل، شأنها شأن البيت الشعري نفسه، حيث إيقاع الزمان من إيقاع المكان. فهي التي تثبت حركة الإيقاع مثلما تثبت لحظة سكونه، وكأنها تؤدي بذلك ما تؤديه الكتابة عادة، وتقوم مقام حجر الزاوية في نظام القصيدة الإيقاعي (الوزني). ومما يؤكد ذلك أن جذرها اللغوي يحيل على المرئي أكثر مما يحيل على المسموع، أو على حاسة المكان أكثر منه على حاسة الزمان. وكأن الشاعر القديم كان «يكتب» بالقافية لا بالقلم. ونقدر أن في هذا مظهرا من مظاهر الكتابية، في القصيدة العربية القديمة التي يصعب الإقرار بأنها من «الأدب الشفوي». ولعل الأقرب إلى الصواب أن نقول إنها أداء شفوي يحتفظ بنمطية كتابية، وينقلنا من ذاكرة إلى صورة مكتوبة، حتى وهي تصاغ في هيئة تجعلها قابلة للحفظ والاستظهار؛ أو لنقل إنها القافية فيها فعل كتابي معلق أو مقدر.
كاتب وشاعر تونسي
“القدس العربي”