لا ينطلق هذا النقد من رفضه للنتائج التي يتوصل إليها بحث خلف علي الخلف المعنون “الدولة المرفوضة – سوريا ودور اليسار في إنتاج الدولة الطائفية” والصادر حديثاً عن جدار للنشر والثقافة. فقد تكون النتائج صحيحة كلياً أو جزئياً وقد لا تكون. مشكلة البحث أنه يطلق تعميمات لا تستقيم مع بحث أكاديمي رصين، فأي يسار وأي تيار قومي ذاك الذي أسهم في ترسيخ الدولة الطائفية البعثية؟ ثم إن غياب التحقيب الزمني عن الكتاب أوقعه في تشوش يثقل على القارئ، حتى أنني شعرت أحياناً أن النقد يذهب إلى “تيار الممانعة والمقاومة” في خلط غابت فيه الحدود.
ومن مشاكل البحث أيضاً أنه أهمل تماماً الإتيان بنصوص ذلك اليسار المنقود. في الصفحات السبعين، وهي كل البحث، لا يعثر القارئ على نص واحد لذلك التيار المنقود بحجة أن البحث يستندُ “بشكل مضمَر، إلى محتوىً منشورٍ ومعايشةٍ مستمرة لليسار في سورية، كذلك إلى مشافهاته الشائعة، أدبياته وخطابه عبر العقود الخمسة الأخيرة، وتم إهمال مرجعة الأحداث لأنها شائعة ولا جدال في صحتها” كما يقول الباحث. هذا الإهمال يتناقض قطعاً مع ما التزم به خلف بأن بحثه يقوم على أسس معرفية ويعتمد على المنهج التحليلي الاستنباطي، متناسياً أن من أبرز سمات ذلك المنهج هو التفكيك ومراقبة الشواهد.
ثم إن السمات المعرفية تتطلب وضع الأدلة لاتهامات حفل بها البحث. لكني لم أعثر كقارئ على شواهد وأمثلة حية، حيث أن كل ما ذُكر ظل يدور ضمن اتهامات وتعميمات تنطبق على الكل ولا تنطبق على أحد. نقطة الضعف تلك مردّها غياب المراجع. وفي هذا الصدد ومن الطرافة بمكان أن رفعت الأسد كان يعدّ يسارياً وفقاً للبروباغندا الإعلامية السورية والسوفيتية سابقاً كما يورد ذلك حنا بطاطو في بحثه المهم “فلاحو سوريا”.
غياب التحقيب والحدود أوقع نقد خلف في تشوش واضح، ورغم استدراكه في فصل عنونه “مكونات اليسار المعارض في سوريا” إلا أن التعميم ظل السمة الطاغية، وذلك كما أسلفت سببه إهمال الباحث نصوص وأدبيات ذلك اليسار المنقود.
صحيح أن خلف يتطرق إلى جزء من ذلك اليسار “حزب العمل الشيوعي” على سبيل المثال، ويتهمه دون استشهادات دقيقة تحيل إلى أي مصدر ب “تطابق قراءتهم للمسألة الطائفية مع النظام”، وهو ما قد يرتد عليه بطائفية مضادة. هذه الطائفية المضادة – حتى وإن تبرأ الباحث منها – يمكن الاستدلال عليها من خلال بعض المقدمات التي قام عليها البحث. تلك المقدمات التي استهل بها خلف بحثه تعيدنا لقراءة الكتاب مرة ثانية وبالمقلوب، بمعنى الطائفية والطائفية المضادة؛ للأسف هذا واقع الحال في سورية الآن. فما هو السبب؟ هل هو ابتعاد الدراسات الأكاديمية الجادة في العالم العربي عن تناول “المسألة الطائفية”، لأنها تشكّل لغماً، كما يقول خلف؟ من جهتي؛ أعيد طرح السؤال بشكل آخر: هل النظام السوري هو المسؤول الأول عن تلك الطائفية التي دمرت سورية الآن؟ هل الدراسات والأبحاث التي أُنجزت في هذا المجال وضعت يدها على كامل الجرح السوري وحددت كل الأسباب؟
دعونا، انطلاقاً من كتاب خلف، ننقل النقاش إلى مستوى آخر، ولنفكر بصوت عال دون تأتأة أو خجل. أليست المكاشفة والمصارحة هي البدوة الأولى من أجل معالجة ذلك المرض العضال الطائفية؟
لا شك أن السياسات الموجهة نحو الأقليات التي اتبعها الفرنسيون بين عامي 1921 و1945 فيما يتعلق بتركيبة الجيش السوري كان لها دوراً مهماً في ذلك المرض العضال، إنما وكي لا نضع كل شيء على عاتق الفرنسيين، هناك جانب آخر من المعادلة، وهو أن سنّة المدن كانوا ينظرون إلى الجيش باحتقار، وكانت سياسة “البدل” قبل عام 1964 “حيث كان مسموحاً للسوريين أن يشتروا إعفاءً من الخدمة العسكرية مقابل 500 ليرة سورية؛ وبعد عام 1964 قيدت تلك العملية بشدة ورفع البدل إلى 2000 ليرة لحاملي الشهادات الجامعية و1000 ليرة لحملة الشهادة الثانوية و600 ليرة لغيرهم من السوريين (بطاطو، فلاحو سورية، ص 305). في تلك الفترات كان العلويون وسنة الأرياف في أوضاع اقتصادية سيئة جداً، لذلك لا توجد صعوبة في معرفة من هم دافعو البدل.
لنبقى ضمن تلك “الفترات” إنما بعيداً داخل تلك الدائرة الجهنمية؛ وقبل الاحتلال الفرنسي؛ “قبيل الحرب العالمية الأولى لم يكن بوسع العلوي أن يمر في شوارع حماة لأنه سيتعرض للشتيمة وإلقاء المياه الآسنة عليه والضرب وحتى القتل” (سورا، الدولة المتوحشة، ص 55). لذلك حسب سورا؛ في أحداث 1982 تم تدمير حي الكيلانية بأكمله في حماه (ص 55). استمر الوضع على ما هو عليه، لا بل ازداد سوءاً في ظل الحكم العثماني وقبل ثورة تركيا الفتاة عام 1908، كانت نساؤهم وأطفالهم – العلويون- يؤسرون ويباعون، وبعد الحرب العالمية الأولى أخذوا يؤجرون أو يبيعون بناتهم لأهل المدن الأغنياء، نتيجة الفاقة والعوز (بطاطو، ص 93). هو إذن العنف والعنف المضاد، أو الطائفية والطائفية المضادة، تغذيها عصبية شرحها ابن خلدون بأفضل ما يكون الشرح.
لنعد إلى السؤال الدي اقترحته في رد أو متابعة أسئلة خلف: هل النظام السوري هو المسؤول عن تلك الطائفية التي يكتوي بها السوريون الآن؟ دعونا نأخذ شاهد عيان. رجل شاهد الأحداث وأثر وتأثر بها هو أحمد نهاد السيّاف ومذاكراته المعنونة “شعاع قبل الفجر” وماذا قال فيها. مرجعية السيّاف تنبع أهميتها في نقاشنا أنه كان يعد اليد اليمنى لإبراهيم هنانو، قائد ثورة الشمال ضد الفرنسيين. لعب الرجل – السياف – أدواراً مهمة أثناء الاحتلال الفرنسي ومشهود له بمناقبية عالية، وتولى في فترة من الأوقات مؤسسة “الريجي” المهمة ومقرها اللاذقية، وكان الطرف المفاوض مع سلمان المرشد، وتوطدت بين الرجلين علاقة ثقة متبادلة. يؤكد السياف ورغم أن الدولة السورية قامت على أسس واهنة كما يؤكد خلف، إلا أنها كانت تحمل في ذاتها عناصر بقاءٍ وطنية، أسّس لها كفاح السوريين ضد الانتداب الفرنسي ولم يتمّ الاشتغال عليها على أسسٍ وطنية راسخةٍ بُعَيدَ الاستقلال. و للأسف، كما يخلص السياف، تمَّ الاشتغال بالضد منها. يستعرض السياف تلك الفرصة الضائعة وكيف فرط بها الكتلويون وعلى رأسهم شكري القوتلي، رئيس الجمهورية، ورئيس وزرائه سعدالله الجابري وكيفية تعاملهم مع قضية سلمان المرشد، وبدلاً من أن تكون مدخلاً لمعالجة ذلك الشرخ الطائفي الذي كرسته سياسات طويلة للسلطنة العثمانية ضد العلويين والأقليات الأخرى؛ فقد عمقوا من ذلك الجرح. ويتهمهم السياف صراحة بأنهم فرّطوا بلواء إسكندرونة لتركيا كي يتخلصوا من ذلك الصداع، ولما فشلوا مرة أخرى أرادوا تناول مسكن آخر علّهم يخففوا من ذلك الصداع، فتوجهوا نحو عبد الناصر بحجة الوحدة وشعارات حماسية قومجية.
خلف في بحثه يعيد علينا ما يعتقد أنها بديهيات، وهي كذلك، إنما بديهيات مدرسية تم تلقينها لجميع السوريين عبر المناهج الدراسية والإذاعة والتلفزيون، فوقع فيما يعيب فيه منقوديه.
يقول خلف في الصفحة 14 “عاشت هذه الدولة المرفوضة (الدولة السورية)، التي قُبِلت كأمرٍ واقع، في اضطرابات وصراعات مستمرة داخلياً وإقليمياً ودولياً، نتج عنها انقلاباتٌ عسكرية متتالية قام بها العسكرُ السنة، الذين كانوا يشكّلون معظمَ، إن لم يكن كل، الرتبِ العليا والقيادات في الجيش.” ومن قرأ التاريخ السوري جيداً يعرف أن ذلك غير صحيح. صحيح أن قائد أول انقلاب في سورية هو سني – حسني الزعيم- إلا أنه من المعروف أن قادة الانقلاب “تفادوا أن يتبوأ هذا المركز ضابط غير سني” (السياف، ص 196). لقد شكل العلويون والدروز نسبة كبيرة من قادة وتشكيلات الجيش. كان علم الدين قواص – علوي- صانع الانقلابين الأول والثاني والذي يقول: ” كان لتصريحات رئيس الجمهورية شكري القوتلي عن عزمه على تصفية الجيش الذي كان العلويون يشكلون نسبة ٨٠٪ منه، بحجة أن هذا الجيش من بقايا الاستعمار، كان لهذه التصريحات ردة فعل من أهالي الجبل …” (السياف، ص 198). حنا بطاطو أيضاً يؤيد هذا الرأي مؤكداً أنه “بين عامي١٩٦٠ و١٩٦٥ كانت اللجنة العسكرية بكاملها تنتمي إلى طوائف ابتداعية. لم يشكل الضباط السنة، معظمهم من أصول ريفية، سوى ٢٠٪، عشية انقلاب آذار عام ١٩٦٣.” (ص 283). أيضاً، وبعيداً عن الثقافة المدرسية التي لُقنّا بها نحن السوريين، يمكن تتبع ذلك المرض العضال وأسسه وجذور نشأته من خلال نظرة سريعة على تربية وثقافة معظم – إن لم يكن كل – رجالات الاستقلال في سورية، سنجد أنهم تربية السلطنة العثمانية وقد تبوؤا مراكز قيادية فيها. ويمكن لنا من هنا فهم اتهام السياف لرجال الكتلة الوطنية وكيف فرطوا في لواء إسكندرونة وكيليكيا. وهذا يعني أن فرنسا قد ورثت المشكلة الطائفية اللهم إلا إذا كانت “الإمبراطورية العثمانية السنية” دولة غير طائفية! وجاء العهد الجديد، مرحلة الاستقلال، بملاكي الأراضي ليتابعوا سياسات الإمبراطورية العثمانية مع بعض التجميلات وإضافة بعض المساحيق.
خلف في بحثه يبني الكثير من مقدماته على وقائع غير دقيقة، وكلنا يعرف البديهية التي تقول إن المقدمات الخاطئة تقود ٱلى نتائج خاطئه. لذلك حتى وإن كان لذلك اليسار الفضفاض دور في إنتاج الدولة الطائفية، فهو دور تم تضخيمه كثيراً، وأسهمت الشعبوية كثيراً في إعطائه “شرفاً” لا يستحقه، هو أشبه بكلمة الاشتراكية التي، وفقاً لميشيل سورا، بات الشعب السوري يرتجف ذعراً لسماعها. إنما هل المشكلة في الاشتراكية أم في النظام السوري؟
يذهب الخلف بعيداً في تضخيم دور اليسار بإنتاج تلك الدولة الطائفية مشبّهاً إياهم ب “الزمرة الثقافية” و”الطليعة المقاتلة” للإخوان المسلمين، وبأنّ هذا “اليسار كان هو المنتجُ المؤسّس لخطاب السلطة ومحدّداتها ومعاييرها ومخاوفها وممارساتها الطائفية”. إنها مزحة ثقيلة! وفقاً لحنا بطاطو؛ تشكلت السلطة في دولة الأسد الطائفية وفق ترسيمات واضحة حيث الأسد يمسك بكل خيوطها: مستوى أول هو الأمن والمخابرات والسياسات الأمنية والخارجية؛ مستوى ثانٍ يتشكل من الفرق النخبوية في الجيش التي تتولى الدفاع عن النظام؛ مستوى ثالث هو حزب البعث ومجلس الشعب والوزراء والمجالس المحلية ومهمتهم التعبئة والحشد والتنفيذ. فأين يقبع ذلك اليسار المفترض الذي يرفعه خلف لمستوى الفاعل وذو الدور المهم في ترسيخ تلك المنظومة؟ ليأتِنا بالجواب “إنّ إنتاجَ دولة طائفية دينية قد يبدو نتاجاً طبيعياً للفكر الديني، أمّا أنْ ينتِجَ فكرٌ يساريّ دولةً طائفية دينية فيبدو ذلك غيرَ منطقيّ للوهلة الأولى، لكنّ معاينةَ الدول التي حكمها اليسارُ بشكل انقلابي يوضّحُ أنها آلتْ إلى أولغارشيات، عسكرية، إثنية، جهوية، عائلية، قبلية، أو طائفية. هذا ما حدث لتجارب الحكم اليسارية بشكل واقعيّ في العالم” (ص 41). هذا تعميم، وعلى وجاهته يبقى تعميماً، وحافظ الأسد لم يوسم نظامه باليساري، وحتى إن كان ذلك، فخطاب اليسار والتيار القومي الموجود في الجبهة الوطنية التقدمية، خالد بكداش ويوسف فيصل وصفوان قدسي، مغاير تماماً لخطاب حزب العمل والمكتب السياسي وجمال الأتاسي، حتى إن افترضنا جدلاً اشتراكهم مع النظام ببعض المكونات.
أخيراً، وعلى سبيل الدعابة، في 9 أكتوبر 1979، وفي اجتماع لاتحاد الكتاب العرب، تساءل الشاعر “العلوي” اليساري ممدوح عدوان: “لماذا امتيازات جندي في سرايا الدفاع أكثر من ضابط في القوات العاملة؟” وبدوري كقارئ لكتابه، أسأل خلف الآن: كيف نحل هذه المعضلة، ممدوح عدوان يساري ورفعت صاحب سرايا الدفاع يساري، فعلى أي يسار تميل؟
* كاتب سوري