تتقاطع محركات التصويت في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، التي تجري اليوم، وتلتقي وتتصارع فيها القوى السياسية المتنافسة حول محاور كثيرة، تجعل من الصعب جدا توقع حسمها في الجولة الأولى. ومع أنه لا مستحيلات في السياسة، فإن تنوع محاور الصراع يجعل نتيجة الانتخابات مفتوحة حتى الساعة الأخيرة قبل إقفال صناديق التصويت، حيث يلجأ كل تحالف من التحالفات الانتخابية الثلاثة الكبيرة إلى استخدام أوراقه الحساسة التي من شأنها إرباك الخصم، أو حلفائه سواء في التصويت لاختيار النواب، أو التصويت لاختيار الرئيس. التحالفات الثلاثة الرئيسية هي: «تحالف الشعب» بقيادة رجب طيب أردوغان، و«تحالف الأمة» بقيادة كمال كليجدار أوغلو، وتحالف «العمل والحرية» الذي لم يقدم مرشحا رسميا للانتخابات الرئاسية، وأعلن تأييده للمرشح كمال كليجدار أوغلو. ويتم انتخاب الرئيس بنظام الأغلبية البسيطة، على مرحلتين، إذا لم يحقق أي من المرشحين أكثر من 50 في المئة من الأصوات في المرحلة الأولى. أما التصويت لانتخاب أعضاء البرلمان فيجري بنظام التمثيل النسبي، من خلال قوائم سياسية مغلقة. وقد حدد قانون الانتخابات عتبة التمثيل الانتخابي بنسبة 7 في المئة من الأصوات الصحيحة في الدائرة الانتخابية. ويتم توزيع المقاعد على الدوائر طبقا لعدد السكان.
ومن المتوقع أن تلعب تحالفات وأحزاب صغيرة خارج التحالفات الانتخابية الرئيسية دورا مهما في حال عدم فوز أي من التحالفات الثلاثة الرئيسية بأغلبية واضحة في البرلمان، وذلك بالدخول في تحالف برلماني يرجح كفة طرف من الأطراف. وستلعب عوامل محددة دورا رئيسيا في التصويت للقوائم الانتخابية، أهمها مستوى الوعي السياسي لدى الناخبين، خصوصا في الأقاليم، والثقة في أسماء الأحزاب والمرشحين، وتجاربهم السياسية السابقة، ومواقفهم من القضايا الحاسمة في الانتخابات وأهمها الوضع الاقتصادي، والتوافق مع قيم الدولة.
وتتمثل أهم محاور التفكير التي تدور حولها اهتمامات الناخبين في قضايا الوضع الاقتصادي الداخلي، وأهمها الغلاء وانهيار الليرة والبطالة، وهي قضايا يخسرها تحالف اردوغان إلى حد كبير، لكنه يحاول تعويض ذلك عن طريق اللعب بقضايا حقق فيها إنجازات ملموسة، منها المكانة الإقليمية والدولية، ومدى النجاح في تحقيق إنجازات قومية مهمة مثل إنتاج الطائرات المسيرة «بيرقدار» وإنتاج السيارة الكهربائية «توج» والإعلان عن اكتشاف حقول غاز في مياه تركيا الإقليمية. ومع ذلك فإن صراع الهوية في تركيا بين الطابع السياسي الإسلامي والطابع السياسي العلماني للدولة، يمثل محورا حاكما لتصويت الناخبين والثقة في المرشحين. ويمكن القول إن انقسام المرشحين والناخبين حول قضية الهوية يمثل المحرك الرئيسي الذي يلعب في مصلحة «تحالف الشعب» الذي يقوده اردوغان ضد «تحالف الأمة» بقيادة كمال كليجدار أوغلو. وقد استطاع اردوغان في العقدين الأخيرين من خلال سياسة نشطة وإيجابية تحويل اهتمام الأتراك عن «الحلم الأوروبي» إلى استعادة «الحلم العثماني» من خلال الاهتمام بتزايد الدور الإقليمي لتركيا في الشرق الأوسط، وزيادة التقارب مع دول الخليج، وتحرير السياسة الخارجية من النفوذ الأمريكي، مع الحرص على استمرار دورها داخل حلف الأطلنطي، والدخول في علاقات قوية مع روسيا، سواء على مستوى التنسيق في الشرق الأوسط (سوريا وليبيا وإيران) أو على مستوى التنسيق في أوكرانيا لوقف إطلاق النار، وترتيبات مبادرة القمح والسلع الغذائية عبر البحر الأسود ومضيق البوسفور. هذا التحول في تركيا من الحلم الأوروبي إلى الحلم العثماني يتوافق وتأكيد الهوية الإسلامية لتركيا. وسوف تبين نتائج الانتخابات إلى حد كبير وزن كل من التيارين الديني والعلماني، وقوة كل منهما في استقطاب الناخبين. أما الاستقطاب القومي داخل تركيا بين الأكراد والترك، فإنه من المرجح أن يكون محركا مهما جدا لتوزيع الخريطة البرلمانية في البرلمان المقبل والتصويت لصالح الرئيس في حال عدم وجود أغلبية واضحة لقائمة من القوائم، حيث تبلغ القوة التصويتية للأكراد حوالي 15 في المئة من مجموع الناخبين، وتأتي في المكانة الثالثة بعد الإسلاميين والكماليين.
إصلاح الاقتصاد مع كليجدار
ونستطيع ترتيب محركات اتجاهات التصويت على النحو التالي: القضايا الاقتصادية هي المحرك الأول للتصويت لصالح كمال كليجدار أوغلو ومعه كل من «تحالف الأمة» و «تحالف العمل والحرية» وهي نقطة الضعف الرئيسية
التي يعاني منها «تحالف الشعب» بقيادة اردوغان. كما أن انخفاض الثقة في مرشحي حزب العدالة والتنمية، سيلعب دورا مهما في التصويت لمصلحة معارضيهم. ومن المرجح أن يصوت الناخبون المعنيون بحماية البيئة وبناء ما يسمى «الاقتصاد الأخضر» خصوصا في المدن لمصلحة كمال كليجدار وقائمة «العمل والحرية». كما أن طابع التطرف القومي الذي تتصف به إحدى القوائم الصغيرة القريبة من تحالف اردوغان، قائمة «أتا» سيؤدي إلى زيادة حدة التصويت الكردي ضد اردوغان ومؤيديه. إن أكبر التهديدات التي يواجهها اردوغان وحلفائه يتمثل في الوضع الاقتصادي، نظرا لأن مظاهر الضعف الاقتصادي مثل الارتفاع الصارخ في مستوى التضخم، وارتفاع البطالة، واتساع نطاق الفقر، هي نتيجة لسياسة اردوغان الاقتصادية غير المستندة إلى قواعد الأداء الاقتصادي الجيد المستدام، وهي السياسة التي تركت ما يقرب من ثلث سكان تركيا في حالة عوز اقتصادي واجتماعي.
ومع ذلك فإن سياسة اردوغان الاقتصادية لم تكن شرا مطلقا. فقد استطاع الرئيس التركي مع انفجار جائحة كورونا أن يتبنى سياسة إيجابية لصالح التوسع الاقتصادي، عن طريق إتاحة قروض بأسعار فائدة منخفضة وشروط سداد ميسرة للأفراد ورجال الأعمال، خصوصا في القطاع الصغير والمتوسط. وقد استفاد من هذه القروض ما يقرب من 7 ملايين من الصناعيين ورجال الأعمال، وما يقرب من مليونين من الأفراد، ما وفر شبكة حماية مالية ضد الإفلاس لرجال الأعمال، والأفراد في ظروف مالية شديدة الصعوبة. كما ساعدت جهود الإعمار لتوفير مساكن للمتأثرين بالزلزال، على محو ذكريات الأيام الأولى السيئة، التي تعرض فيها المسؤولون المحليون والوزراء لحملة هجوم قاسية، وصلت إلى حد رشقهم بالحجارة وطردهم من المناطق المنكوبة التي حاولوا زيارتها. وقد حاول اردوغان كذلك تقليل أثر التضخم على أصحاب الدخل الثابت، ومنهم أكثر من 700 ألف موظف عام، بمنحهم زيادات كبيرة في الرواتب، إلى جانب استخدام نظام التمويل المتناهي الصغر، الذي تقدمه المؤسسات المالية للأوقاف الإسلامية في خلق طبقة واسعة في قطاع الأعمال المتناهي الصغر تضم عشرات الآلاف من السيدات اللاتي يعملن لصالح أنفسهن. كما أن سياسة اردوغان الاقتصادية تتمتع بشعبية بين أصحاب المعاشات.
الاقتصاد في اليوم التالي
وهناك اتفاق بين المحللين وخبراء الشؤون التركية الذين أسهموا في تحليل خريطة القوى السياسية، وميول الناخبين في التصويت، والقضايا التي تستحوذ على اهتمامهم في مؤسسات مثل مشروع الشرق الأوسط للبحوث والمعلومات «MERIP» ومعهد الشرق الأوسط «MEI» وكذلك أساتذة الاقتصاد في عدد من الجامعات التركية، على أن تخليص تركيا من الإرث الاقتصادي لاردوغان هو المهمة الأساسية التي يتعين مواجهتها في السنوات المقبلة، أيا من يكون الفائز في الانتخابات. يقول إيرول تايماز أستاذ الاقتصاد في كلية الشرق الأوسط بجامعة أنقرة التقنية، إنه في حال فوز اردوغان فإن حكومته ستواصل على الأرجح سياستها السابقة، لأنها لا تمتلك الكفاءات الضرورية لمواجهة تراكمات الأزمات التي تسببت فيها سياستها. وهو في ذلك يقدم تحذيرا ضمنيا إلى الناخبين من إعادة اردوغان للحكم مرة أخرى. ونظرا لأن التضخم وانهيار قيمة الليرة هو المصدر الأول للمتاعب الاقتصادية اليومية، فإن الفائز بالانتخابات سيتحمل مسؤولية منح البنك المركزي الاستقلالية الكاملة للحد من التضخم، وهذا يعني أن السياسة النقدية للبنك المركزي التركي ستتحول إلى سياسة متشددة، تستخدم سلاح أسعار الفائدة أداة رئيسية لمكافحة التضخم. وتتوقع الدكتورة سيلفا دميرالب أستاذة الاقتصاد في اسطنبول، بأن سعر الفائدة قد يصل إلى أكثر من 30 في المئة، من مستواه الحالي الذي يبلغ 8.5 في المئة. وفي هذا السياق فإن اردوغان يتحمل مسؤولية فشل البنك المركزي في مكافحة التضخم، نظرا لأن البنك تحول إلى مؤسسة خادمة لشعارات الدولة، وتخضع لأهواء رئيسها، بدلا من أن يكون جهازا مستقلا يدير السياسة النقدية طبقا لاحتياجات تحقيق الاستقرار المالي ومكافحة التضخم. الخطير هنا هو أن الصدمة التي يعاني منها الاقتصاد حاليا، ربما تحتاج إلى صدمة مضادة لإزالة آثار السياسات الضارة التي يعاني منها. وقد حذر عدد من الاقتصاديين من أن تركيا قد تقع ضحية ركود شديد في العام التالي للانتخابات سواء نجح كليجدار أو اردوغان.
وإذا كانت المعركة بين الاقتصاد والهوية هي التي من المرجح أن تحسم نتيجة الانتخابات، فإن معدل الإقبال على التصويت في المدن والأقاليم سيلعب دورا جوهريا في نتائج التصويت. الثقل الانتخابي للمدن أكبر منه للأقاليم، نظرا لكثافة السكان الذي يسفر عن زيادة عدد أعضاء البرلمان المخصص للدوائر. في إسطنبول وحدها، وهي أكبر الدوائر الانتخابية الـ 87 في تركيا، إذ يبلغ عدد المقاعد المخصصة لها 98 مقعدا، بنسبة 16.3 في المئة من العدد الكلي لنواب البرلمان الـ 600 مقابل 36 مقعدا للعاصمة أنقرة بنسبة 6 في المئة فقط من المقاعد. وكلما ارتفعت نسبة التصويت في المدن فإن هذا سيولد قوة أكبر لمحركات التصويت في غير صالح اردوغان، ومنها محركات الاقتصاد والبيئة والإصلاح الإداري المؤسسي والقيم الليبرالية. أما إذا زادت كثافة التصويت في الأقاليم، حيث تسيطر نزعة تقليدية بشأن الهوية السياسية للدولة، وعمق الاستقطاب القومي، فإن هذا سيصب لمصلحة اردوغان، ومن المرجح أيضا أن يحظى وقائمته بتصويت قوي في مناطق الزلزال على الحدود التركية – السورية. باختصار لا يوجد تفوق مطلق لأي من المرشحين الرئيسيين للرئاسة. ومن المرجح أن يتحقق الفوز بالرئاسة بهامش ضئيل جدا. وسيكون الاقتصاد هو الهم الأكبر للناخبين من الطبقة الوسطى وفي الدوائر الانتخابية في المدن، بينما ستكون قضايا الهوية والقومية هي المسيطرة على الناخبين في الأقاليم، خصوصا مع قوة أجهزة الدعاية التي يعتمد عليها اردوغان، وكثافة ترويج خطاب العداء للنزعة «الليبرالية الغربية» و «الانفصالية الكردية» من خلال التركيز على قضايا الهوية وإنجازات اردوغان في القضايا الإقليمية والدولية. ومع ذلك فإن الاقتصاد سيكون هو الهم الأكبر في اليوم التالي للانتخابات. وإذا فشل اردوغان في الفوز من الجولة الأولى، فسيكون على الأتراك الانتظار حتى نتائج التصويت في الجولة الثانية في 28 من الشهر الحالي.
“القدس العربي”