تأثير شكسبير في الدراما التلفزيونية المعاصرة.. لعبة العروش نموذجا

دائماً ما يحضر إلى الروح وبقوة، نتاج شكسبير الذي مثله مثل زهر اللوز؛ يباغتنا باستمرار ويفرض علينا أن نعيد اكتشافه من جديد. فشكسبير الذي يمتد تأثيره إلى كل المنجز الأدبي والإبداعي الإنساني لكوكبنا، ابتداء من المسرح والرواية، ومرورا بالشعر وبالفلسفة، وصولا إلى السينما والدراما التلفزيونية، التي أصبحت وبكل جدارة، الأداة الفنية الأكثر قدرة على الوصول للمتلقي، وأخذه إلى جهة العواطف والقيم، وجهة تناقضاته، وإلى جهة الشعر أيضا.

لن أدخل في مقالي هذا في كمية البحث عن الكتب الروائية والفلسفية والشعرية التي جاءت بعد شكسبير وتأثرت به، فهو “الكاتب الأكثر اقتباسا في تاريخ العالم”، وذلك لأني أعتقد بأن الموضوع كان مثار العديد من البحوث الأكاديمية القيمية، وهو ما لا تسمح به المساحة في هذا المقال. فمن المعروف أن كتابات شكسبير قد أثرت بشكل مباشر وواضح على العديد من الروائيين والشعراء البارزين العالميين، بما في ذلك هيرمان ميلفيل، وتشارلز ديكنز، وتوماس هاردي ووليم فولكنر، كما أثرت في العديد من الكتّاب في عالمنا العربي الذي لم يكن استثناء من كل الثقافات العالمية التي تأثرت وما زالت تتأثر بشكسبير.

كانت مسرحيات شكسبير، وخاصة ماكبث وعطيل وهاملت وتيودور، من أولى المسرحيات التي خلقت فكرة الفانتازيا التاريخية من خلال إدخال شخصيات تمتلك قوى لا منطقية

ولن أتحدث عن مسرحياته التي ما يزال العالم يعيد تقديمها حتى اليوم ويتنافس في جودة هذا التقديم، بل سأحاول إبراز تأثير شكسبير في كل من شكل الدراما وبناء الشخصيات واللغة في الأعمال السينمائية إن كانت أفلاما أو مسلسلات وخاصة تلك الأعمال التي استطاعت أن تكتسح الملتقي العالمي في الوقت الراهن، مستفيدة من عصر اليوتيوب وعصر المنصات الذي يسمح للمشاهد بمشاهدة عشر حلقات في اليوم الواحد.

تأثير شكسبير في صناعة دراما تعتمد على الفانتازيا التاريخية

كانت مسرحيات شكسبير، وخاصة ماكبث وعطيل وهاملت وتيودور، من أولى المسرحيات التي خلقت فكرة الفانتازيا التاريخية من خلال إدخال شخصيات تمتلك قوى لا منطقية مثل شخصية العرافتين في مسرحية ماكبث، وشخصية فالستاف العارفة بكل شيء والحكيمة دائما، ومزج هذه الشخصيات مع شخصيات منطقية لكنها عنيفة وصادمة تحيك حبكة دراما تاريخية متخيلة فيها هذا المزج الذكي والرشيق بين التراجيديا والمأساة والرومانسية، وفيها طرح جريء لحماقات ولإنجازات الملوك وسوء حكمهم وكنيستهم، للنزوع المدمر بهدف امتلاك تلك السلطة.

في تلك المسرحيات، سعى شكسبير دائما إلى استكشاف الدوافع الداخلية للشخصيات وللصراع، مستعيرا أفكاره من المصادر والتقاليد الشعبية ومن حكايات وأحاديث الشوارع، الأمر الذي جعله “ينقذ الدراما من الجمود الأكاديمي” ويحافظ على تحيزها الأساسي نحو رؤيته للعاطفة، ونحو التعمق في تناقضات الحالة الإنسانية بشكل ملموس أكثر وليس كدمى، وقد لمحنا ذلك بوضوح شديد في سلسلة “لعبة العروش/ صراع العروش” التي شدّت قلوب المشاهدين في كل أرجاء العالم من خلال تقديمها لدراما تاريخية متخيلة تمتد على عدة محاور، وتتوزع بين تراجيديا شديدة الألم ورومانسية عميقة تطل برأسها بين شقوق المأساة، وتركز في جوهرها على شدة التخريب والتشويه الذي يمكن أن يفعله امتلاك السلطة لدى الأشخاص الذين هم في الجوانب الأخرى من حياتهم، بشر يحبون ويعشقون مثل كل البشر.

وركّزت السلسلة أيضا على كيفية انتقال هذه السلطة وتنوع مسمياتها في التاريخ البشري ابتداء من سلطة الحكم الملكي، وصولا لسلطة الدين، ومرورا بالسلطة التي يقودنا إليها دافع الانتقام، وهو الأمر الذي يعيد إلى الذهن مباشرة مسرحيات شكسبير، وخاصة مسرحيات ماكبث وهاملت والملك لير. فشكل الدراما ومحاورها وكثافتها تقودنا فورا إلى أسلوب شكسبير في صنعها، وينطبق نفس التحليل على سلسة “أوت لاندر” التي تُعرض حاليا على منصة نتفليكس، والتي تعتمد على طقس مصحوب بغناء خاص يقام أمام أحجار خاصة، ويسمح للشخص بالانتقال عبر الزمن إلى الوراء، وهنا أيضا نعود لطقس العرافات في ماكبث، اللواتي جعلهن الكاتب قادرات على قراءة المستقبل، وهو الأمر الذي يعطي للأعمال التلفزيونية المذكورة، نفس الغرائبية التي امتلكتها تلك المسرحيات.  كما أن الحبكة في العمل تعتمد على هذا الطقس من أجل رواية تاريخين كاملين، بينهما أكثر من مئة عام من خلال شخصيات افتراضية تعيش أهم الأحداث في هذين الزمنين، وتتأثر بها بشدة، كما أن المزج بين التراجيديا والرومانسية هو من أهم صفات العمل، وهذا أيضا ما يذكّر بمسرحيات شكسبير التاريخية كمسرحية يوليوس قيصر وتاجر البندقية.

في حين أن سلسلة “سيد الخواتم” القصيرة، تركز أيضا على مدى التخريب الذي يمكن لامتلاك السلطة أن يقودنا إليه، لدرجة أن يحولنا لمسوخ مثل شخصية المسخ المتخلية، كما أنه يرتكز أيضا على التنوع البشري وعلى صوت الحكمة من خلال شخصية (غانداف).

 تأثير شكسبير في صناعة شخصيات الأعمال الدرامية الحديثة

تميزت شخصيات شكسبير بأنها مؤثرة جدا ومميزة وقادرة على العنف “بشدة”، مثلما هي قادرة على الحب بشدة، “فهي فردية بشكل أكثر حدة بعد فقدان عمل الحب”، بالإضافة إلى امتلاكها لبعض القوى اللامنطقية.

في سلسلة “صراع العروش”، تطالعنا شخصية الملكة التي يمكن أن تفعل أي شيء من أجل البقاء في العرش، وهذا ما يعيد إلينا شخصية مسرحية ماكبث الأساسية. كما أن شخصية الأب لعائلة الشمال الذي يقتل ظلما في المسلسل، هي شخصية شكسبيرية كلاسيكية مأساوية: “رجل عظيم أسقطته أخطاؤه”، كما أن العمل يمتلئ بالشخصيات ذات القدرات فوق المنطقية مثل شخصية أم التنانين التي تربي تنانين تشكّل مصدر قوتها وقادرة على إحراق العالم. وأيضا شخصية بايرن القادر على رؤية المستقبل الأمر الذي يجعله حكيما بطريقة تعيد إلى الذهن شخصية العرافتين في مسرحية ماكبث، أما في سلسلة “سيد الخواتم” فإن تقارب الشخصيات هو واضح جدا، حيث يعتمد العمل على شخصية غانداف الحكيم العارف وهو نسخة محدثة عن شخصية فالستاف الشكسبيرية، الذي كان يلقي نظرة ثاقبة على المواقف المختلفة التي تنشأ في المسرحية.

تأثير شكسبير في لغة الأعمال الدرامية الحالية

تمكن شكسبير من مزج المأساة والكوميديا ​​معا لخلق نوع جديد من التراجيديا الرومانسية، حيث نقل اللغة من لغة الشارع البسيطة إلى اللغة الأرقى أو ما يسمى باللغة الملحمية أو “الشكسبيرية”، حيث أنقذ اللغة من الغموض والحشو وغرس فيها الواقعية والحيوية والكثافة، ولعل أكثر ما يعيد للمشاهد روح مسرحيات شكسبير هي تلك اللغة الملحمية، التي ميزت العديد من الأعمال المعروضة حاليا، أبرزها سلسلة “لعبة العروش” وسلسلة “أوت لاندر” ومسلسل “آنا وذ أ”، التي كانت كلها عبارة عن روايات تأثرت كثيرا بلغة شكسبير الملحمية الممتلئة بالفلسفة والشعر، والقادرة على حمل الذات البشرية وعمقها وجمالياتها وتناقضاتها وقبحها معا.

“تلفزيون سوريا”