الكلام لعبة استعارة قديمة قدم اللعبة لا قدم الكلام، فالكلام أقدم من أقدم لعبة قديمة. لنفترض أن الكلام بدأ بلعبة تقتضي أن ترتب الأصوات في نسق، ثمّ تنطق ثمّ تكرّر وبلعبة البناء والإعادة والتصويت والتقطيع بدأ الإنسان الكلام.
لكنّ الكلام ليس لعبة أحادية، بل لعبة مشتركة بين طرفين: من يقذف كرة المضرب ومن يراقبها ويرجعها، ويظل الإرسال والإرجاع مستمرين إلى أن يتوقف اللعب بخروج الكرة، أو بانتهاء الشوط. الكلام لعبة شطرنج بين متباريين حين تكون للكلام استراتيجية وأهداف؛ والكلام مبارزة بالسيف حين يكون بين المتكلمين قَصاص ومقارعة بالحجة، وفي العربية هناك جناس قريب بين الكَلْم بمعنى الجرح والكلام، ويمكن أن تصيب بالكلام وتجرح وتدمي وتقتل وأنت تمارس لعبة المبارزة.
أبرز من استعمل استعارة اللعبة للغة هو الفيلسوف النمساوي لودفيغ فتغنشتاين في أثره «تحقيقات فلسفية». يرى هذا الفيلسوف أن اللغة لا تكتسب إلاّ بالاستعمال وليست كما كان يعتقده هو سابقا في كون ذلك المعنى متأتيا من شكلها المنطقي، تُكتسب اللغة وهي تُستعمل وتُستعمل وهي تُلعب أي والناس يتلاعبون بها. ولعبة اللغة هي أن يتقن المتكلم القواعدَ، إذ لكلّ لعبة قواعدها، لكن أيضا أن يراعي حوسبة السياق الذي يلعب فيه والوضعيّات التي تتحكّم في تلك اللعبة. في الكلام تبدأ لعبة اللغة حين تُسأل ويجيبك مخاطبك وحين تأمر فيأتمر لك من تأمر وتنهاه فينتهي.
وليست كلّ الألعاب ثنائية تفاعلية في الكلام، فمن الممكن أن تلعب وحدك في انتظار من يشاهدك ويتفرج على لعبك بالكلام. تفعل ذلك حين تنظم شعرا، وتؤلّف رواية وتكتب مسرحا، وحين تستذكر بينك وبين نفسك نكتة فتضحك في جنون أو في احتشام. يقول فتغنشتاين في هذا السياق أن اللعبة – اللغة تكمن في: «إعطاء الأوامر والامتثال لها وفي وصف كائن وفقا لما نراه عليه، أو وفقا للسمات التي يقيّم بها، وفي بناء موضوع من وصف (رسم) وفي نَقْل حدث، وفي التكهّن بحدث، وفي صياغة فرضيّة وفحصها، وفي عرض نتائج التجربة في جداول ورسوم بيانيّة وفي اختراع حكاية وقراءتها وفي التمثيل المسرحي، وفي الأغاني وفي حل الألغاز وفي قول مزحة، وفي الإخبار عنها وفي حل مشكلة الحساب التطبيقي، وفي الترجمة من لغة إلى أخرى، وفي السؤال والشكر والشتم والتحيّة والصلاة» ( تحقيقات، الفقرة 23).
من خلال هذه الأمثلة لا تعني اللغة في استعمال الفيلسوف اللغة التي ننطقها أو نكتبها، بل تشمل كلّ أنواع العلامات المرئيّة والمسموعة، ولذلك ينخرط كلام فتغنشتاين في سياق علاميّ عامّ، يتجاوز العلامة اللغوية إلى الإشارات والإيماءات والرسم والسينما وبقية الفنون. واللعب من خلال الأمثلة التي قدّمها يعني أن يقاسم المتكلم أو مستعمل أيّ علامة اللعبة مع آخرين يشاركونه المواضعة على اللعبة وقوانينها. ففي حالة الأمر تجمع اللعبة بين الآمر والمأمور فحين أقول لك آمرا: (ارحل) وترحل فنحن نكون قد مارسنا لعبة الأمر التي لها قواعد لغوية باستعمال الصيغة المناسبة من الفعل والنبرة المناسبة لإنجاز الأمر وقواعد ثقافية تتمثل في أنّي آمر وتنفّذ بحكم ضرب من العلاقة تربطنا. وأنت إن كنت تسمع الكلام وتشاهد عمله وقوانينه فإنك ستتعلم من لعبة الأمر كيف يمكنك أنت أيضا أن تلعب اللعبة نفسها في سياقات أخرى من الأمر كأن تقول تعال بدلا من ارحل التي تعلمتها لأنّها تحتكم للقوانين نفسها التي احتكم إليها الأمر الذي راقبته في (ارحل).
هل الرد على الهدية بإلقائها وإرجاعها سيكون يوما ما لغة تقتضي قواعد؟ نعم سيكون ذلك في حالة ما لو بات ذلك ثقافة كما الإهداء ثقافة وكما المدح ثقافة والذم ثقافة.
الاستعمال يرسّخ لدى من يشاهد لعبة الكلام القواعد. لعبة الكلام لا تعلمنا القواعد فقط، بل تعلمنا مع القواعد اللغوية للكلام القواعد التداولية والسياقات التي يمكن أن تسمح لنا باستعمالها فيه. في الأمر وهو عمل لغوي بالمعنى التداولي للكلمة فإنّ ما نتعلمه من القواعد هو أن من يأمر ينبغي أن يكون في وضعيّة أعلى من المأمور وأن هذه العلوية لا تفضي بالضرورة إلى أن يكون المأمور مستجيبا، فقد يرفض ما تطلب فلا يستجيب، لكنّ القاعدة في الأمر هي أنّك حين تأمر يؤتمر بأمرك، لكن يمكن ألاّ يفعل المأمور ذلك، فعدم الائتمار ليس خروجا عن هذه القاعدة، بل هو جزء منها. حين تأمر لم تعطك اللغة سلطة الآمر، بل منحتك إياها عناصر نفسية واجتماعية وثقافية هي التي تؤلف السياق ما منحته اللغة لك هي الآلة اللافظة، والشكل الناظم الذي تسيره قواعد نحوية لا تعمل باستقلال عن القواعد السياقية والثقافية.
ما لم يتحدّث عنه فتغنشتاين هو الأعمال التي تنقلب فيها اللعبة على قواعدها أو تتعطل فيها تلك القواعد. نحن لا نكون في الكلام دائما في نطاق قاعدة، نحن من الممكن أن نعطّل القاعدة أو نخرب نظامها ونحن داخل لعبة الكلام. وحتى نستعمل فرضيّة فتغنشتاين فإنّ المتفرّج يتعلّم وهو يشاهد اللعبة اللغوية قواعد الكلام. هذا متفرّج مثالي غرضه أن يتعلم اللغة، لكنّ هناك أنواعا أخرى من المتفرجين الذين لم يحضروا للفرجة ولا للتعلم، بل جاءوا للمشاغبة أو لرمي اللاعبين بالحجارة إنهم يشاهدون لكي يتحينوا الفرصة لتعطيل اللعبة والانقضاض على اللاعبين.
أن تكلمني وتحييني لعبة، وأن تغضب في وجهي ولا تحييني هو لعبة أخرى مناقضة لها، ليس لها اسم لكنها صنعت من تخريب لعبة التأدب والتحية، ويكون المتفرج فيها ممارسا التخريب، فبدلا من أن يقف ويحيي يرمي المرسل المحيي بالبندورة أو بعلب الماء الفارغة. أن تعطّل الكلام وتعاقب بالصمت وبحجب التحية فذلك شيء من تعطيل القواعد التي تجري بها أسباب الكلام الحيّ وتعطيله هنا يعني تخريب قواعده الأصلية التي كانت تفيد فباتت لا تفيد. نقول من هنا أن العقوبة بالصمت أو بهجر الكلام لا تعمل عملا قانونيا مختلفا، بقدر ما هي تعطيل للعبة ذات قواعد لا تفضي إلى لغة جديدة، لكنها تريد كسر النظامية في لعبة أصلية.
تعمل اللغة في مجال الإهداء بقواعدها اللغوية والثقافية والتداولية، فحين تهدي شخصا وردة فأنت تستعمل قواعد لغوية وعلامية منسجمة مع عمل الإهداء، كأن تكتب على باقة الورد «إلى من علمتني كيف تكون للورد روح». حين تتسلم المرأة الورد وتفرح فهذا جزء من قوانين لعبة اللغة والعلامات عموما. إلى هذا الحدّ نحن في دائرة اللعبة وفي قوانينها اللغوية والتداولية، تخريب القاعدة يكون بأن تردّ الهدية أو ترمى، نحن سنكون ساعتها في باب معاكسة القوانين التي تبني خطاب التهادي ومواقفه ووضعياته لا بأن نصوغ قواعد تقابله، كالتي تصنع الحزن الذي هو مقام مقابل للفرح، أو التي تصنع الذمّ الذي له خطاب مقابل للمدح فهذه خطابات وخطابات مقابلة لكل منها قواعده ويلعب كلّ منها بشكل مختلف. نحن في باب ردّ الهدية لسنا إزاء نوع من خطاب أو عمل لغوي مقابل لآخر، لا إزاء تخريب لقوانين لعبة لغوية إشارية من غير تأسيس لغة أخرى ذات قواعد أخرى.
هل الرد على الهدية بإلقائها وإرجاعها سيكون يوما ما لغة تقتضي قواعد؟ نعم سيكون ذلك في حالة ما لو بات ذلك ثقافة كما الإهداء ثقافة وكما المدح ثقافة والذم ثقافة.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
“القدس العربي”