أتت نتائج الانتخابات الرئاسية التركية ضمن المتوقع، إذ لم يحقق الرئيس أردوغان أو منافسه كمال كليتشدار أوغلو أغلبية 50%+1 المطلوبة في الجولة الأولى من الاقتراع الذي تم يوم الأحد. الخبر الجيد لأردوغان أنه تفوّق على منافسه بأكثر من أربع نقاط في الجولة الأولى، والخبر غير الجيد لكليهما أن المرشّح الثالث سنان أوغان نال حوالى 5% من الأصوات، وهو مرشح تحالف “الأجداد” ذي الصبغة القومية المتطرفة، وداعية ترحيل اللاجئين من تركيا. أي أن التحالف مع أوغان ليس بالخيار المحبّب لأيّ من المتنافسَين في الجولة الثانية، وليس بلا ثمن أيضاً إذ قد يكون كسب أصوات مؤيديه سبباً في خسارة أصوات أخرى.
تعقيباً على نتائج الجولة الأولى، قال رئيس حزب الشعب الجمهوري كليتشدار أوغلو للصحافيين أن إرادة التغيير لدى الأتراك أعلى من 50%، وهي نسبة تأخذ بالحسبان مجموع الأصوات التي حصل عليها هو وسنان أوغان. تصريح أوغلو هذا فيه واقعية وعقلانية أكثر من تصريحات سبقت عن نيله غالبية الأصوات، قبل صدور نتائج الفرز. فواحد من أسباب خسارة أردوغان، إذا حدثت في الجولة المقبلة، هو ذاك الميل الطبيعي إلى التغيير بوصفه من المظاهر الاعتيادية في الأنظمة الديموقراطية.
للتذكير، كان نجم أردوغان قد بدأ بالصعود مع تسلمه رئاسة بلدية إسطنبول في تسعينات القرن الفائت، ثم مع بروزه كرجل حزب العدالة والتنمية القوي، ورجل السلطة الأقوى في رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، طوال العقدين الأخيرين. ومن دون احتساب خصوم أردوغان لأسباب شتى، هناك بين المقترعين جيل نشأ على وقع صعود أردوغان، بينما لم يرَ الجيل اللاحق على الأول زعيماً في السلطة سواه. العامل النفسي المتعلق بالتغيير لدى جيلين من الشباب لا تصبّ خلاصته في مصلحة أردوغان، وفضلاً عن الرغبة في التغيير لم يجرّب هؤلاء كأسلافهم حكم حزب الشعب ليقارنوا بين سلبياته وسلبيات خصمه حزب العدالة، ما يخدم الأول منهما.
على الضفة الثانية، تدلّ نسبة النصف تقريباً التي حصل عليها أردوغان على أن شريحة المحافظين تتخوف من عودة كماليي حزب الشعب إلى السلطة، وعلى عدم وجود قناعة واسعة الانتشار بأن الكماليين قد استفادوا من تجربتهم في المعارضة، وصاروا أكثر اعتدالاً في التوجه العلماني وما كان يتصل به من ممارسات منفِّرة للمحافظين اجتماعياً. أما أنصار الحركة القومية فلهم حسابات مستجدة، مبنية على ما تغير ظاهرياً في خطاب حزب الشعب تجاه الأكراد، وعلى قرار حزب الشعوب “الممثل السياسي للأكراد” دعمَ أوغلو في مواجهة أردوغان. وأغلب الظن أن حزب الشعوب لا يتوقع الكثير من فوز أوغلو إذا حدث، لكنه بذلك يكون قد كرّس ثقله “والثقل الكردي من خلفه” كرقم صعب ومرجِّح في المعادلة السياسية التركية.
لكي يفوز كليتشدار أوغلو بالرئاسة، عليه الاحتفاظ بأصوات الذين اقترعوا لصالحه في الجولة الأولى، والحصول على أصوات الذين اقترعوا لسنان أوغان، وهو ما يبدو شبه مستحيل مع مطالبة الثاني وقف تعاون الأول مع حزب الشعوب. وما لم يُبرَم اتفاق بينه وبين أردوغان فإن السيناريو المرجح هو انقسام الذين صوّتوا لأوغان، ليذهب الشباب منهم إلى أوغلو، بينما يصوّت الباقون لصالح أردوغان الذي تكفيه نسبة بسيطة منهم، بشرط احتفاظه بأصوات الذين اقترعوا له في الجولة الأولى.
نظرياً، تبدو مهمة أردوغان أسهل من منافسه، فيكفيه الحفاظ على الأصوات التي نالها في الجولة الأولى، ومن شبه المؤكد “في كافة الاحتمالات” أن يحظى بنسبة تكفيه للفوز من الأصوات التي نالها أوغان. لكن الحفاظ على زخم مؤيديه غير مضمون مئة بالمئة، خاصة بعد ارتياح نسبة منهم لتقدّمه الصريح في الجولة الأولى، وأيضاً لتقدّم التحالف الذي يقوده ونيله الأغلبية البرلمانية. نسجّل هنا تراجع مقاعد وأصوات حزب العدالة، مع تقدّم أصوات الحركة القومية الحليفة له، والاستحقاق البرلماني الحاضر في الجولة الأولى له فضل على نسبة المشاركة الواسعة فيها، بينما قد تنفضّ عن الجولة الثانية نسبة من الذين ليس لحزبهم مرشّح فيها.
بفوزه بالرئاسة وتراجع حزبه برلمانياً يخسر أردوغان خسارة “مقبولة”، ويكتفي بالصلاحيات الواسعة لمنصب الرئاسة في دورته الأخيرة، وهذا ليس حال حزبه المتراجع. أما في حال فوز كليتشدار أوغلو فهو سيأتي ضعيفاً سلفاً، لأنه سيواجه برلماناً الأغلبية فيه للمعارضة بقيادة خصمه الرئاسي، وإذا تجاهل ذلك سيكون قد تراجع عن وعوده بإعادة الاعتبار إلى البرلمان والنظام البرلماني. سيكون أردوغان متحفزاً لاستغلال أغلبيته إلى أقصى حد كي يشوّش على أوغلو، بما في ذلك السعي الدؤوب لانتخابات مبكرة.
يطرح أردوغان نفسه خياراً للاستقرار، بينما يقدّم أوغلو نفسه رمزاً للتغيير؛ هذا هو عنوان الجولة المقبلة الحاسمة بينهما يوم 28 أيار الجاري. ولا بد من الإشارة إلى أن الجولة الأولى انقضت على نحو غير متوقع من النجاح، فالإقبال على التصويت فاق التوقعات، ولم تتخلل العملية الانتخابية تجاوزات تُذكر أو اتهامات بها بين الطرفين. وخرج المرشّحان الرئيسيان بتصريحات هادئة، تعكس قناعة كلّ منهما بنتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية معاً.
غير أن هذه الأجواء الإيجابية ليست مرشّحة للاستمرار مع الاقتراب من الجولة الثانية واستحقاقاتها، وأيضاً مع صدور نتائجها. فخسارة أوغلو في الجولة الحاسمة ستكون تتويجاً لخسارة حزبه البرلمانية، وسيعزّ عليه الاعتراف بذلك، وكان في الجولة الأولى على وشك اتهام الحزب الحاكم بالتزوير، بعدما سرّبت مصادره “بالمثل” نتائج غير دقيقة عن فرز الأصوات. أما أردوغان فلا يُتوقع منه التسليم بالخسارة إذا حدثت، وسيسعى بكل السبل لإثبات أحقيته بالفوز، بما فيها استخدام البرلمان والشارع.
تقول نتائج الجولة الأولى فيما تقول أن الماضي يأفل، وأن المستقبل لم يولد بعد. حسابياً، أتى تراجع حزب العدالة لصالح التيارات القومية، فنالت الحركة القومية وحزب “الجيد” 20% من الأصوات، ونال القومي سنان أوغان ما يرفع النسبة إلى ربع أصوات الناخبين. في المحصلة، تهيمن الأحزاب القومية والإسلامية على حوالى ثلثي الأصوات، وهي بمجملها ليست مع تغيير جاد أو عميق رغم بعض الخلافات بينها. أما حزب الشعب الجمهوري، ورغم بعض الإصلاحات، فلم يتمكن من التحول ليكون عنواناً جذّاباً للتغيير على صعيد الأفكار والأشخاص. بعد أسبوعين إما ستكون تركيا مع الاستقرار الذي يتمناه أردوغان، أو مع انقسام سياسي حاد وصاخب قد يستمر طويلاً، أما التغيير فمؤجل إلى انتخابات لاحقة.
“المدن”