في النسق العقلاني الفلسفي اليوناني نفسه، الذي كانت منطلقاته وأعمدته متوغلة في نظرية المحاكاة عند المعلم الأول (أرسطو)، ذهبت الفلسفة العربية الإسلامية، مع كل من الفارابي وابن سينا وابن رشد، تعيد استهلاك واجترار مبادئ هذه الفلسفة، التي كانت ترى في الشعر مجرد محاولة مثالية لاستكشاف القوانين العامة للوجود، في تناولها لكل ما هو كائن وموجود، لدرجة أنْ أصبح الشاعر، في إطار هذا التباين، أسمى مقاما من المؤرخ، من خلال تناول الأول للكليات والمحتمل، وتناول الثاني للجزئيات والكائن، وأشبه ما يكون بالفيلسوف الذي يبحث هو أيضا في الكليات، وإن بشكل يختلف عن الشاعر، إذ الحكم الكلي عند الفيلسوف يرقى إلى مستوى التجريد الخالص، في حين أن الحكم الكلي عند الشاعر يبقى رهين ما هو حسي وجزئي (يراجع أرسطو: «فن الشعر»).
وعلى هذا الأساس فإن قوة الخيال، عند الفلاسفة المسلمين، لا يمكنها إطلاقا أن تصل إلى مستوى القدرات العقلية التي تنهض بالحقيقة في إطار الحكم الكلي المجرد. وبناء عليه، فإن قوة الخيال هذه، هي نتاج لمقدرة دنيا في نفس القائل والمتلقي على السواء، ولا يمكنها في أي حال من الأحوال، في نظر هؤلاء الفلاسفة دائما، أن تبلغ درجة الكلي المجرد.
طرح كهذا لا يمكنه البتة إلا أن يسحب من الشعر إمكانية معانقة العوالم العميقة، والحقائق الغابرة، التي لها علاقة موضوعية بالنشاط الوجداني في النفوس، الشيء الذي يشي بإغفال الفلاسفة العرب لدراسة الجوانب الغابرة والخفية من الحياة النفسية، في محاولة لاستكشافها. ومما زاد في انحياز الفلاسفة المسلمين إلى قوة العقل أكثر، هو استناد رؤيتهم للشعر على «تعاليم الإسلام، التي تخالف في جوهرها ما تعارف عليه الناس من قبل، الشيء الذي أغنى الفلسفة العربية الإسلامية، كما أغنى النقد والإبداع العربيين، بل كان للإسلام بالغ، الأثر في فن الشعر من حيث الأسلوب، كالقسم والدعاء والقصص القرآني، وضروب اللفظ، واللغة والصور والأخيلة والاقتباس». (مسلك ميمون «التأصيل الإجرائي لمفهوم الشعر عند ابن سلام الجمحي» عالم الفكر-العدد1، المجلد 30، 2001).
إن تصورا كهذا لا يمنح إطلاقا القول الشعري مرتبة تؤهله لمنافسة الحكم الفلسفي البرهاني، فالتعارض «القائم بين العقل والتخيل ينمو ويصبح تعارضا بين الشعر والفلسفة. ومن العسير أن نجد فيلسوفا عربيا ينظر إلى الشعر على أنه يخلق نوعا من المعرفة خاصا به، يستطيع أن ينافس المعرفة التي تستخلص من براهين الفلاسفة، وما يمكن أن يقوله الناقد المعاصر من أن الشعر يعرض التجربة الإنسانية عرضا خياليا، في شكل موحد له مغزاه وقيمته بالنسبة للمبدع والمتلقي على السواء، وأهميته الكبرى في الحياة الإنسانية أقول، إن مثل هذا القول لا يصبح – في نظر الفلاسفة الذين تتعامل معهم، بل في نظر النقاد والبلاغيين- إلا ضربا من العبث والهذيان. إن المعرفة الحقة هي الفلسفة وليست غاية الشعر، ووسيلتها الأقاويل البرهانية التي هي أشد أقسام المنطق شرفا وأحقها بالرياسة وليست الأقاويل الشعرية» (جابر عصفور- الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب).
صفوة القول إن تركيب أفكار وتحديدات أهم الفلاسفة العرب المسلمين، بخصوص قضية الخيال والتخيُّل والتخييل، يجعل المتأمل لها يُقر بسرعة، أن هؤلاء الفلاسفة وضعوا حدودا صارمة أمام اندفاعة الخيال المتفلتة باستمرار من إسار العقل.
والحق إن ما يمكن استخلاصه من آراء وأفكار أهم وأكبر الفلاسفة العرب والمسلمين، الذين ارتبطوا، في منطلقاتهم الفلسفية، بالمرجعية الأرسطية، التي تتأسس على مبادئ صناعة المنطق عند صاحبها، هو أن القوة التخييلية، هي دون مستوى العقل الصارم ونسقيته المنضبطة، في سعيها لاستكشاف حقيقة هذا الوجود ودوائرها. هذه النظرة المتحفظة تجاه التخييل، ومن ثم تجاه الشعر، سوف تسحب من هذا الأخير وظيفته المعرفية، إذ ستنحصر، من ثم، فقط في إثارة الانفعال في النفوس لا غير، حيث إنها لم تضع في الحسبان مجموعة من دوائر حقيقة هذا الوجود، التي يلفها الغموض، والتي تتميز بالعمق والكثافة والعتامة الوجودية، لدرجة أن العقل لا يمكنه البتة إدراكها وفهمها. نذكر، على سبيل التمثيل لا الحصر، الطبقات الوجدانية للحياة النفسية، وأيضا وعطفا على ذلك، الأحكام العامة لهذا الوجود التي لا تنضبط لقانون أو قاعدة معينة.
صفوة القول إن تركيب أفكار وتحديدات أهم الفلاسفة العرب المسلمين، بخصوص قضية الخيال والتخيُّل والتخييل، يجعل المتأمل لها يُقر بسرعة، أن هؤلاء الفلاسفة وضعوا حدودا صارمة أمام اندفاعة الخيال المتفلتة باستمرار من إسار العقل. وهي على كل حال نزعة فلسفية تجد قوتها في الخلفية المعرفية التي تنطلق منها، ألا وهي الفلسفة الأرسطية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. والسبب في تقليل هؤلاء الفلاسفة من قدرات الخيال الخلاقة، راجع، في نظرهم، إلى عدم قدرة هذه الكفاية، على بلوغ مستوى القدرات العقلية كوسيط وحيد في عملية فهم الوجود، وإدراك حقيقته، على غرار ما انتهى إليه أرسطو، الذي يرى أن الخيال لا يشتغل تحت وصاية العقل المتميز وحده بفكرة الإقناع/الوضوح، فيما الخيال باب مشرع على التمويه والتغليط.
وتأسيسا على ذلك فإن القول الشعري، في المنظور الفلسفي العربي الإسلامي، هو أقل درجة من حيث القيمة والأهمية، من الحكم الفلسفي البرهاني، ومن ثم فإن وظيفة الشعر لا يمكنها في أي حال من الأحوال أن تتجاوز عتبة إثارة الانفعال في النفوس، أي إنها وظيفة انفعالية محدودة ليس إلا.
كاتب من المغرب
“القدس العربي”