السياسة هي إجابة عن الإنسان الاجتماعي، وعن إمكانية الحكم بالحرية والأخلاق، كما أنها لاوعي السياسة، وليست هناك سياسة دون أخلاق، وليس ممكنا أن تنمو السياسة خارج مجال الأخلاق، لأنها هي التي تمنح للسياسة كل المفاهيم التي تتعامل معها وبها وتستثمرها مثل، الفضيلة والخير، السعادة والإخلاص. طبعا كلها مفاهيم مأخوذة من الأخلاق، لذلك فإن ابن رشد كان على وعي بهذه الإشكالية وكان واعيا بمهمة الأخلاق في منح السياسة عمقها وقدرتها على التدبير الجيد للإنسان، لأن السياسة تتحكم في أرواح الناس وتدبر هذه الأرواح، فإذا ما أخطأ الطبيب يقتل إنسانا واحدا، لكن عندما يخطئ السياسي يقتل أمة بكاملها.
إذن سأحاول أن أجعل من السياسة مدخلا للأخلاق ومن الأخلاق مدخلا للسياسة. لأن كتاب تلخيص «الأخلاق» لابن رشد يتحدث عن السياسة بشغف كبير، كما أن «جوامع السياسة» لأفلاطون يتحدث عن الأخلاق بعشق وحب كبير، ولا أريد أن أقول أن السياسة في عصرنا هذا أصبحت مهنة من لا مهنة له. السياسة تحولت إلى دين وتجارة، منفعة فهناك من جعل من السياسة مقاولة من أجل المصلحة إذن هذه الأصناف من السياسة أصبحت مرفوضة عند ابن رشد، لأن السياسة لا بد أن تكون وتتحكم فيها الفضيلة والخير الأعظم وخير الأمة، وأن تتحكم فيها المصلحة العامة ومصلحة الجميع.
والأخلاق غاية السياسة والسياسة غاية الأخلاق، وأن المحترفين للسياسة حولوا بعض المثقفين إلى هواة، لكن كيف يمكن النظر إلى ابن رشد في هذا الزمن المضطرب. يقول ابن رشد «السياسة أشرف وأعظم العلوم وهي ما بعد الفلسفة» أي تأتي فوق الفلسفة لماذا لأنها تدبر كما يقول حياة الناس فتتحكم في سعادتهم وشقائهم لكن لماذا؟ نفي ابن رشد هل لأنه تجرأ على قول هذا الكلام؟ أم أنه استغل النقد لنقد الطبقة وحدانية التسلط والطبقة الحاكمة لأنها كانت أغلبها من طبقة الفقهاء الذين كانوا يستحوذون على السياسة فيجعلونها سياسة دينية ويقول بأنها لا تصلح لهذا الزمان، أي زمانه فكيف ستصلح لزماننا هذا؟ الانطلاق من الأخلاق نحو السياسة عبر الفلسفة.
فالأخلاق هي علم السعادة والصداقة، فالسياسة ليست إلا المجال الذي تمارس فيه الدولة شرعيتها الديمقراطية، ومن أجل قراءة أرشيف الأسئلة التي تركها ابن رشد لا بد من العودة إلى أرسطو وميكيافيلي ومدرسة فرانكفورت وغيرها من المدارس. نتساءل هل للفلسفة مشروع سياسي وأخلاقي ليكمل مشروعها العلمي والفلسفي. فلماذا تعتبر الأخلاق مدخلا للسياسة هل هي لاوعي السياسة؟ وكيف يمكن جعل الأخلاق في خدمة السياسة؟ وهذا التدخل هو الذي سيستولي على هذه الجلسة، التي بلا شك ستكون ممتعة وعميقة، فالفلسفة ظلت لاوعي السياسة، وتمارس طبعا فالفلسفة تمارس نظرية ميكيافيلية على السياسة، الاختلاف السياسي صداقة لأن الأعداء يأبون السير في الطريق نفسه. فكيف يستطيعون. سنحاول أن نجعل معنى للسياسة، وأن نستفيد من سؤال السياسة انطلاقا من سؤال الأخلاق. كما أن علاقة الفلاسفة والسياسة كانت علاقة متوترة منذ القدم. فصوت السياسيين لا يسمع عند الفلاسفة، كما أن صوت الفلاسفة لا يسمع عند السياسيين، ولذلك فإن السياسة عندما نسألها ونقول لها هل السياسة قادرة على خلق الحرية والعدالة والكرامة، لا نسمع الإجابة وبعبارة أخرى ماذا يستطيع الأفراد عمله عندما ينتظمون ويفكرون من خلال حزب سياسي؟ وهل للسياسة أعداء؟ والذي يعني أن ننتظر خمس سنوات لتجديد الشخص الذي يزعج وجوده هؤلاء الذين ينتقدونه يقول كارل ماركس «إن الاختلاف السياسي مع العدل متناقض» أي أن هناك صراعا فكريا وليس صراعا آخر. السياسة أيضا عندما تتحول إلى سياسة متعالية يصبح الفضاء معتما ورجعيا.
إذن مسألة الانتخابات بالنسبة للفيلسوف لعبة لبعض المترددين الذين يبحثون عن مصالحهم ويتركون مصلحة العامة أي مصلحة الوطن، فهذه الإشكالية هي التي سننطلق منها.
ما معنى الهوية ضد الحرية والعلمانية؟ السياسة الحقيقية لا تعرف التوقف لأنها تشتغل دائما من أجل سعادة الناس. السياسة عندما يتم رهنها في الانتخابات فهي تحدد من قبل مجموعة صغيرة من المترددين، أولئك لا يمتلكون رأيا بل هو محدد سلفا. فالناس الذين لا يمتلكون التزاما فعليا يشكلون كتلا ثابتة يميلون أحيانا لهذا الطرف، وأحيانا إلى طرف آخر. أناس سمتهم الجوهرية هو التردد وقرارهم غير مبني على قناعة هو قرار اللامقرر هم الذين لم يقرروا بعد وسيقررون في الانتخابات.
إذن مسألة الانتخابات بالنسبة للفيلسوف لعبة لبعض المترددين الذين يبحثون عن مصالحهم ويتركون مصلحة العامة أي مصلحة الوطن، فهذه الإشكالية هي التي سننطلق منها. سننطلق من الأخلاق للوصول إلى السياسة عبر جزر الفلسفة فالأخلاق هي علم السعادة فالذين لا يعرفون السعادة من المستحيل أن يسيروا الأمة بكاملها. فالإنسان يبحت عن السعادة لكنه لا يعرف طريق بلوغها، والتي هي السياسة فلا داعي للهروب من السياسة. فالإنسان كائن سياسي لا بد من جعل السياسة تنتقل من مرحلة الفراغ الأخلاقي إلى مرحلة الامتلاء بالأخلاق والعقل الذي هو يجعل من السياسة سياسة ويجعل الإنسان إنسانا. ما معنى أن يكون الإنسان كائنا حرا يبحث عن الحرية وهو يهرب من السياسة؟ النظام القديم يستثمر في الانحطاط السياسي من أجل أن يصل إلى السلطة فالسلطة هي غاية، وليس الشعب. فنحن نريد السياسة غاية وليس الشعب. فنحن نريد السياسة التي تهدف إلى الشعب أي التي تجعل من الشعب غاية. هذه السياسة التي ستكون الإجابة عن إمكانية الحكم بالحرية وجعل الأخلاق هدفا، وليس مدخلا للسياسة الحقيقية هي عدم. الهروب من السياسة هو ما جعل مجموعة من المترددين والذين ليس لهم قرار ولا يعرفون ما معنى الالتزام بانتماء سياسي فهم يرتحلون من هذا إلى ذاك.
كاتب مغربي
“القدس العربي”