شاقّ وجارح ومُكرب، وإن كان في الآن ذاته وقائعي وموضوعي وقارس في برودة معطياته، أن تكون 40 سنة قد انقضت اليوم على رحيل الشاعر المصري الكبير أمل دنقل (1940-1983)؛ بعد صراع مع السرطان كان ممضّاً وقاسياً وملحمياً. ورغم جبروت الزمن، وتحديداً إيقاعات مروره بطيئاً متمهلاً أو لاهثاً متسارعاً، تستعيد هذه السطور ذكرى الراحل الكبير؛ مقترنة بتفاصيل ذات طابع عامّ، لا يخلو مع ذلك من اعتمالات شخصية فردية أو حتى ذاتية.
ففي أواخر أيار (مايو) 2003 شاء الناقد المصري الكبير الراحل جابر عصفور أن تكون الذكرى الـ20 لرحيل دنقل مناسبة لتكريمه خلال مؤتمر حاشد حمل عنوان «أمل دنقل: الإنجاز والقيمة»؛ شاركت فيه شاعرات وشعراء من مصر والعالم العربي، كما أحيا جلساته النقدية عدد كبير من نساء ورجال اشتغلوا نقدياً على قصيدة دنقل وبحثوا في خصائصها ومكانتها وموقعها في خريطة الشعر العربي، مطالع القرن الجديد.
وقد شرّف هذه السطور أن تشارك في ذلك المؤتمر بورقة عنوانها «أمل دنقل والمشهد الشعري الراهن: استقراء بمفعول رجعي»، وقد قرأ د. عصفور ملخص الورقة مسبقاً، ورأى أنها كفيلة بإطلاق نقاش مبكّر (ساخن، كما اعتبر!) حول تلمّس مفاعيل حضور دنقل، بصفة ارتجاعية وجدلية؛ ولهذا فقد اقترح أن أبدأ «التسخين» من الجلسة الأولى، مباشرة.
كان سؤال الورقة المركزي هو هذا: كيف يمكن للمرء أن يتخيّل حركة المشهد الشعري العربي المعاصر، مطالع الألفية الثالثة، لو أنّ دنقل بقي على قيد الحياة؟ وكانت الإجابات تتمحور حول الاحتمالات التالية:
– هل كانت خطوط التيارات والمشاريع الشعرية الأساسية ستظلّ على الحال الذي تبدو عليه اليوم؟ وأين سيكون موقع مشروع دنقل الشعري الشخصي، وما طبيعة ذلك الموقع؟ أية خصوصية كان سيصنعها إسهامه المتميز في حركة شعرية معقدة تتصارع تياراتها في ظلّ، وبتأثي،ر مناخات حضارية وسياسية وجمالية لا تقلّ تعقيداً؟
– ما هي الأبعاد المصرية لهذه السيرورة: في ضوء، أو على توازٍ مع، أو أو افتراق عن؛ منجزات صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي؟ وفي عقد تحالفات جمالية مع محمد عفيفي مطر، وشعراء التفعيلة السبعينيين؟
– وماذا عن الأبعاد العربية؟ هل كان دنقل سيحمل مع أمثال محمود درويش وسعدي يوسف بعض أعباء تحديث شكل التفعيلة على مستوى اللغة، والموضوعات، والخيارات الملحمية والغنائية، والبحث المعمق في البنية الإيقاعية العربية بما يفضي إلى عمارات موسيقية متطورة وجديرة بنهايات القرن؟
– أيّ تأثير رادع (أو مشجّع، أو محايد) كان مشروع دنقل سيمارسه، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، على سرعة انتشار قصيدة النثر في أوساط الأجيال اللاحقة من الشعراء في مصر والعالم العربي؟
– ما الذي كان سيطرأ على خيار القصيدة السياسية لو أنّ صاحب «كلمات سبارتاكوس الأخيرة»، و»البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»، و»بكائية الليل والظهيرة»، و»تعليق على ما حدث»، و»أغنية الكعكة الحجرية»، و»مزامير»، و»رسوم في بهو عربي»، و»لا تصالح»، و»الطيور»… امتلك من أسباب البقاء ما يجعله يواصل ذلك الخيار العنيد؟ وأية وجهة كانت ستأخذها تلك القصيدة في مصر بصفة خاصة، ثمّ في العالم العربي إجمالاً؟ هل كانت ستتقاطع أم تتناقض أم تتكامل مع أساليب أخرى في التعبير الشعري عن الهمّ السياسي؟
أستجمع، اليوم، القليل فقط من السجال الذي أثارته الورقة، سواء داخل القاعة أو في أوساط صديقاتنا وأصدقائنا كتّاب مصر، خاصة أولئك الذين كانوا ينكرون على دنقل ريادة شعرية ملموسة وعالية، ولعلّ بعضهم يظلّ على الحال ذاتها في زمننا هذا. من جانبي أظلّ، بدوري، على يقين براهنية ما تساءلت حوله قبل 20 سنة؛ بل أكاد أساجل فيه بتمسّك أشدّ، نظراً لما وفّره العقدان المنصرمان من معطيات جمالية وسياسية وثقافية تخصّ المظاهر المتعاقبة من تطورات الذائقة الشعرية العربية.
أحد كبار المشاركين في المؤتمر كان محمود درويش، الذي بقي صامتاً خلال ما أعقب تلك الجلسة النقدية من نقاش مستفيض؛ ولكنه أسهم في السجال، لاحقاً وعلى طريقته: أنه، في واحدة من الأمسيات الشعرية يومذاك، ألقى قصيدته «بيت من الشعر/ بيت الجنوبي»، المهداة إلى دنقل، وفيها يقول:
«وينام على دَرَج الفجر: هذا هو
البيت، بيتٌ من الشعر، بيتُ الجنوبيِّ.
لكنه صارم في نظام قصيدته. صانع
بارع يُنِقذُ الوزنَ من صخب العاصفةْ».
ويضيف درويش، في سطور أخرى: «شاعرٌ، شاعرٌ من سُلاَلة أَهل/ الخسارة، وابنٌ وفيٌ لريف المساكينِ/ قرآنُهُ عربيٌّ، ومزموره عربيٌّ، وقُرْبانه/ عربيٌّ. وفي قلبه زمنانِ غريبان/ يبتعدان ويقتربان»؛ وأيضاً: «قلتُ: وهل يُصْلِحُ الشعرُ/ ما أفسد الدهرُ فينا وجنكيزخان/ وأحفادُهُ العائدون إلى النهر؟/ قال: على قَدْر حُلمكَ تتّسع الأرض/ والأرض أمّ المخيّلة النازفةْ….».
وكانت القصيدة، التي وقعت في تسع فقرات ونحو 80 سطراً وستُنشر لاحقاً في مجموعة درويش «لا تعتذر عمّا فعلت»، 2004؛ ومثلها وقائع مؤتمر 2003، وما اقترحت خلاله من خلاصات معمقة؛ بمثابة دفاع حارّ، شعري وتقدي وأخلاقي، عن حقيقة حضور دنقل في قلب الذائقة والمشهد، رغم انقضاء 20 سنة على غيابه.
“القدس العربي”