يعدّ ويليام شكسبير William Shakespeare (1564-1616) واحدا من أعظم كتَّاب الدراما الذي خلّد التاريخ اسمه، لمساهمته بأعمال تتخطَّى حدود الزمان والمكان؛ لأنها تمسُّ النفس البشرية، وتطرح مشكلات وقضايا إنسانية لن تنضب أو تختلف، مهما اختلفت العصور. وتعد مسرحية «عطيل» من أشهر الأعمال التي تحكي عن الحب الشديد والوفاء الذي يدمِّره الشك والغيرة القاتلة، وعدم الثقة في الشريك، وجميعها مشاعر يزجيها خائن حاقد ينفث سمومه وينفِّذ مآربه بمساعدة طيش حبيب شكّ في إخلاص شريكته وقتلها، لمَّا أقنع نفسه أنه مغدور به.
ومسرحية «عطيل» كُتبت في القرن السادس عشر ميلادية، لكنها كانت واقعا على أرض الشام، وبالتحديد في بداية العصر العبَّاسي الأوَّل، وبطلها ليس فارسا حربيا نبيلا، ولكنه شاعر «مغوار كالفارس»، وذاك الشاعر هو «عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن مزيد بن تميم الكلبي الحمصي» الذي لقَّب بـ»ديك الجنّ» (161-236 هـ)؛ بسبب لون عينيه الأخضر.
ولد «ديك الجن» في حمص في الشام، لأسرة متعلِّمة معروفة، تقلَّد بعض أفرادها مناصب في الدولة. وفي طفولته، لم يظهر «الجن» نبوغا حقيقيا عندما دُفع به لارتياد المساجد وحلقات العلماء، وإن ظهر الأثر في أشعاره التي حملت الكثير من مظاهر عصره، وجاءت شاهدة على وعيه بعلوم اللغة والأدب والتاريخ والدين، وأثَّرت في شعره، فظهر سليم اللغة خاليا من اللحن، وكان ذا قدرة فائقة على استخدام وإبراز المفردات، بما يخدم أفكاره ومعانيه، وكان محبَّا للتاريخ، وأثره في الشعر الجاهلي على وجه العموم، وشعر الصعاليك على وجه الخصوص. وكان شعر الصعاليك وفلسفتهم القائمة على التمرُّد والرفض، جاذبة له؛ لأنهم انتصروا لوجهة نظره المتمرِّدة وعبَّروا عن شخصيته الغارقة في الملذَّات الحسيَّة، وعشقه لمعاقرة الخمر. وكان يؤكد أنهم بالمقارنة به، أطفال رضَّع؛ أي أنهم لا يزالون في أول أطوار التمرُّد. وفي وصف نفسه مقارنة بالصعاليك، يقول:
وَخَوْضُ ليلٍ تخافُ الجِنُّ لُجَّتَهُ ويَنْطوي جيشُها عن جيشه اللَّجِبِ
ما الشَنْفَرَى وسُلَيْكٌ في مُغَيَّبَةٍ إلا رَضِيـعا لَبـانٍ في حِمى أَشِبِ
وقيل إنه من أهم الشعراء الذين تأثَّر بهم المتنبي، بل سطا على أشعارهم. وبما أنه عاش في بداية العصر العبَّاسي الأوَّل، حيث الازدهار والتقدُّم في جميع ألوان العلوم والفنون، حاول «الجنّ» أن يحفر لنفسه مكانة مميزة بين أهل العلم والفنّ؛ فتعلّم الغناء والعزف؛ ليس فقط لكون موسيقى الشعر عنصرا أساسيا في البناء الفنّي، بل لرغبة منه في أن يكون مشاركا مبدعا يتغنَّى بأشعاره سواء لنفسه أو لندمائه في حلقات الشراب. ولكونه اتخذ من التمردّ سبيلا، فقد تشيَّع؛ ولم يكن هذا أمارة على تديُّنه، بل على شخصيته التي تخالف كل معروف ومألوف. وكان بعيدا كلّ البعد طوال حياته عن التديُّن، ذا مواقف حادة مع الوعاظ ورجال الدين، الذين يلاحقونه ليثنوه عن التمرُّد. لكن وصل به العناد والتمرُّد على الدين ونواهيه، أن أنكر «ديك الجنّ» البعث والحساب، وقد وصفه ابن أخيه: «كان عمِّي خليعا ماجنا».
وإلى جانب عشقه لمعاقرة الخمر وانغماسه في الملذَّات الحسِّية، كان «ديك الجن»، فارس الشعر والتمرُّد والمجون، مولعا أيضا بملاحقة النساء، بيد أن هذا القلب المتمرِّد وقع في العشق الذي أنار حياته، فقد حدث يوما، بينما كان في رفقة صديقه الأثير بكر، يتنزهان في البساتين ويشربان تحت ظلال النخيل، ساقتهما أرجلهم إلى اقتحام أحد الأراضي التي كانت تابعة لأحد الأديرة المنتشرة في ذاك الوقت على أرض الشام. فوجدا بعض النسوة الجميلات يحتفلن ويتسامرن في إحدى المناسبات الدينية، وكانت من بينهن امرأة جميلة تتغنّي بأبيات من شعر «ديك الجنّ» نفسه، وكانت القصيدة يختلط فيها الغزل بذكر رموز دينية، وكانت أبياتها تقول:
عساكِ بحق عيساكِ مريحة في قلبيَ الشاكي
فإن الحسن قد أولا كِ إحيائي وإهلاكي
وأولعني بصلبانٍ ورهبان ونسَّاكِ
ولــم آت الكنائس عن هوى فيهن لولاكِ
حرَّكه التغنّي بكلماته، فأصدر صوتا لفت له النساء، لكنه خرج سائلا عن قائل القصيدة، غير آبه بتهديداتهن بأن ينادوا أصحاب الدير. فأجابته الفتاة أن «ديك الجنّ» هو الشَّاعر. ولمَّا أخبرها أنه نفسه «ديك الجنّ»، شككت فيه وصرَّحت بأن «الجن» شهم ولا يتجسس. ومع إصراره، طلبت منه أن يرتجل أبياتا على وزن القصيدة. ولمَّا أنشدها، طلبت منه أن يغييرها مرَّات تلو الأخرى، وفي كلِّ مرة يظهر لها مقدرته. وأخيرا اقتنعت الفتاة، وتدعى «ورد» أنه هو ذاك الشاعر الفذّ، ولم ينته الأمر إلى هذا الحدّ، بل أغرمت به وتحابا، ثم طلبها للزواج، فما كان منها إلاأن وافقت على الفور. ولحبَّه الشديد لها، وافقت أيضا على تغيير عقيدتها عندما طلب منها. بعد الزواج، عاش «ديك الجنَّ» معها أيام رغد وسعادة وهناء دائمة، وانتشر خبر قصَّة حبهما الصادقة في أصقاع المدينة، تماما مثل قصَّة «عطيل» و»ديدمونة»، لكن «إياجو» الرواية العربية، كان أبو الطيب ابن عمّ «ديك الجنَّ»، الذي كان بعيدا كل البعد عن الطيبة، فقد نهشت الغيرة قلبه، وحاول مرَّات تلو الأخرى التودد لـورد، إلا أنها كانت تصدُّه في بادئ الأمر باللين، وفي نهاية المطاف بالطرد الصريح، فما كان منه إلَّا أن دبَّر مؤامرة خبيثة؛ فانتهز فرصة أن ابن عمه مدين له ببعض النقود، وطالبه بالسداد الفوري. ولمَّا أعرب الأخير عدم المقدرة، نصحه أبو الطيِّب أن يسافر ويمدح الكبار في الشام فيعطونه المال. وبعد السفر، ذهب أبو الطيِّب إلى ورد، وحاول أن يعتدي عليها. ولمَّا طردته، دبَّر مكيدة مخافة أن تحكي لزوجها عن خيانة ابن عمّه. وبمجرَّد أن علم أبو الطيِّب أن «ديك الجنّ» قد رجع من سفرته، وأنّه على أطراف حمص، أشاع الغادر أن «الجنّ» مات في الرحلة، وأوصى صديق ابن عمّه أبو بكر أن يخبر ورد. وأمَّا هو، فقد انتظر لحظة وصول «ديك الجنّ» وأخبره أن زوجته تخونه مع صديقه الحميم. ولمَّا بلغ «الجن» داره، وجد صديقه على باب زوجته يبكيان بحرقة، فظنّ أنهما يبكيان بسبب قدومه هادم الملذَّات، فسحب سيفه وقتلهما. أمَّا هو، فقد قضى بقيَّة حياته هائما وقد شتّ عقله، ولم يعلم ببراءة زوجته إلا عندما اعترف أبو الطيِّب بجرمه على فراش الموت.
التاريخ الإنساني يتكرر، وكذلك زلَّات البشر، ولا فرق في هذا بين الشرق والغرب. ويجنح الأدباء لتصوير قصص واقعية في أعمالهم آملين أن يتَّعظ البشر، ويا ليتهم يتَّعظون!
كاتبة مصرية
“القدس العربي”