قرر مستشار أمريكي في شؤون الإبداع التكنولوجي، مفاجأة حبيبته، ففكر بهدية فريدة من نوعها: استخدم تطبيق الذكاء الصناعي «تشات دي بي» لينشئ كتابا خاصا لها عن خلائط العصائر والمشروبات (الكوكتيل) اعتمادا على مبادئ الطب التقليدي الصيني، مكتوبا على طريقة تبويب شركة ألبسة أمريكية تدعى بيترمان لكاتالوغاتها! بعد جهوز نص الكتاب العجيب قام سترين باستخدام تطبيق آخر يدعى دالي Dall-E لتشكيل صور لتلك الخلائط، وتم طبع الكتاب بتطبيق ثالث ليكون جاهزا لتقديمه في عيد الحب!
تظهر هذه الواقعة التي ذكرتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية أن تأليف الكتب، الذي كان حكرا على النخب الأدبية، صار أمرا شديد السهولة، وهو ما جعل مواقع وسائل التواصل الاجتماعي، مثل يوتيوب وفيسبوك وتيك توك، مليئة بالفيديوهات والنصائح والتعليمات التي تشرح لمن يريد، كيف يطلب من مواقع الذكاء الاصطناعي مدّه بنصوص يمكن تجميعها ككتاب.
ذكّرتني الحالة بالكتب الشعبية الخفيفة التي تعد القارئ بتعلم السحر، أو الطب النبوي أو اللغات مثل «تعلم الألمانية في سبعة أيام دون معلم» وبنظيراتها المتطورة عالميا مثل السلسلة التي تعلّم كل شيء، من لغات البرمجة، إلى العلوم الطبيعية والإنسانيات والأديان (روى الكاتب عبد الوهاب الأفندي حكاية شابين بريطانيين، قرآ كتابا من هذه السلسلة عن الإسلام قبل السفر للتطوع مع تنظيم «الدولة»). تبدأ عناوين هذه الكتب بأشياء مثل: الأنثروبولوجيا، أو الفن التكعيبي (مثلا) وتنتهي دائما بجملة: للأغبياء For Dummies.
أوجد الذكاء الاصطناعي وسيلة أقصر لتنفيذ ما كان حلما صعبا، فسمح لأشخاص كان يستحيل عليهم إصدار مؤلفات أن يؤلفوا، وينشروا كتبا، أو يكتبوا ويلحنوا أغنيات، أو يصنعوا أفلاما، دون أن يكلّفهم ذلك غير عدة ساعات من العمل لا غير. ولأن الكتب المؤلفة عبر الذكاء الاصطناعي يمكن اكتشافها فقد نشأت تطبيقات أخرى تقوم بإعادة صياغة النصوص، ما يسمح بإخفاء آثار شغل الذكاء الاصطناعي ويمكن أولئك «المؤلفين» من ادعاء أن تلك الكتب من تأليفهم!
بشار بن برد والشاعر والشويعر!
نشر الروائي والقاص السوري إسلام أبو شكير بعضا من تجاربه في إنشاء سرد أدبي باستخدام تطبيق الذكاء الاصطناعي «تشات جي بي تي» كما نشر الكاتب والإعلامي الفلسطيني ماجد كيّالي تجربة ظريفة له في مجال الشعر بعد أن طلب من الموقع المذكور كتابة قصيدة له، فيما قدّم عمر الأنصاري، وهو روائي وإعلامي ماليّ، مقالة بعنوان لافت: «كيف تكتب رواية بمساعدة الذكاء الاصطناعي؟» عرض فيها بعض تجاربه في كتابة القصة بالاستعانة بالتقنيات الآنفة، مع بعض النصائح التي يمكن للكتاب الاستفادة منها.
تعبّر مقاربة الكتاب المذكورين عن استقبال إيجابي للظاهرة الجديدة، لكن آراء عديدة أخرى عبّرت عن مخاوف تنتاب فئات بشرية عديدة من إمكانية حلول الآلات الذكية مكانها، وقد رأينا مثالا مهماً على ذلك في ما حصل مؤخرا عندما هددت شركات الإنتاج السينمائي الكبرى واستوديوهاتها في هوليوود باستخدام الذكاء الاصطناعي لكتابة الأفلام والمسلسلات، بعد قيام عدة آلاف من كتاب هوليوود بالإضراب لمطالبة تلك الشركات بتحسين أجورهم. لقد دخلت فئات لا تنتمي إلى الكتابة هذا العالم، ووجدت فرصة سهلة لاستغلال هذا المجال، وقد امتلأت الشبكة العنكبوتية، ومنصّاتها الشهيرة، من يوتيوب وفيسبوك وتيك توك، بفيديوهات وتجارب لأشخاص يقدمون نصائح لآخرين مثلهم في كيفية كسب آلاف الدولارات من خلال إنشاء ونشر كتب لا تكلفهم غير ساعات قليلة من الخطوات شبه الآلية التي ليس فيها جهد إبداعي ولا يحزنون!
من طبيعة حقول الإبداع الإنساني دائما أن يجرّب بعض الطامحين حظوظهم في الكتابة، وهناك قصص كثيرة في التاريخ الأدبي العربي عن المواجهات الحاصلة بين «طبقات» الشعراء واللغويين والفقهاء، اذكر منها على سبيل المثال ما قيل عن بشار بن برد، وشخص ألزمه بسماع شعره فقال له إن هناك ثلاثة أنواع من الشعراء: شاعر وشويعر و… (إشارة جنسية مقذعة) متبعا ذلك بوصف نفسه بأنه شويعر وطالبا من الشخص المذكور أن يتقاسم الصفتين الباقيتين مع امرؤ القيس (الذي كان يعتبر أكبر شعراء الجاهلية)!
في حديث لوكالة رويترز مع ماري رازنبرغر المديرة التنفيذية لجمعية المؤلفين الأمريكية، أشارت الكاتبة إلى أن ظاهرة «الكاتب الشبح» (مؤلف يكتب بأجر كتابا يُنشر باسم شخص آخر) تقليد قديم، غير أن القابلية على تأليف نصوص بشكل أوتوماتيكي عبر الذكاء الاصطناعي سيحول التأليف من فن إلى سلعة.
كيف سينهي الذكاء الاصطناعي العالم؟
هناك تأكيد من مصادر عديدة أن هناك مئات الكتب التي تم تأليفها عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي. بعض الكتب تعلن صراحة عن دور تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تأليفها، منها هذا الكتاب ذي العنوان الساخر: «50 طريقة سينهي فيها الذكاء الاصطناعي العالم» الذي حمل اسم روب نوت، و»أصداء الكون» من تأليف داوسون هنت وتشات جي بي تي، و»اليوم الذي كتب فيه كومبيوتر رواية» من تأليف مشروع كيماجور لتعليم الذكاء الاصطناعي في كتابة القصص. كتاب «الجادّ: طلاق مؤكد» الصادر عام 2019، تم إنتاجه عبر تطبيق booksby.ai وتم استخدام الذكاء الاصطناعي في تشكيل الغلاف وتحديد السعر، وقد اختفى منفذ العمل خلف اسم: شيفينجا فوغولوف. في مجال الشعر، صدرت مجموعة بعنوان «أوم غولي – قصائد حول البشرية» وقد استخدمت هذه السلسلة تطبيق Midijourny لاختراع الصور، والكتاب موجود على أمازون بسعر 16.95 دولار. تعلّق مجلة «ناوتيلوس» Nautilus العلمية على المجموعة المذكورة بالقول: «رغم أن تشات جي بي تي ليس بابلو نيرودا (حتى الآن) لكن الشعر المنتج ليس سيئا جدا» أما صحيفة «هلزنغن سانومات» الفنلندية فرأت أن قصائد الكتاب «مسلية، مدهشة ومخيفة» لأنها تظهر ما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي.
من المؤكد أن هناك كثيرين لا يشيرون إلى استخدامهم تلك التطبيقات في أعمال أدبية، وهو ما يجعل من المستحيل معرفة العدد الحقيقي لتلك الكتب التي أنجزها الذكاء الاصطناعي لا البشريّ، وهو ما يرفع مستوى الشكوك في أصالة الكتب، خصوصا مع تزايد قدرة تطبيقات الذكاء الاصطناعي على تحسين كتابتها الإبداعية، وربما لن يكون الوقت بعيدا حينما يصبح تشات جي بي تي، ونظائره، روائيا أو شاعرا أو كاتب أفلام شديد القدرة على منافسة البشر على الإبداع.
في حديث لوكالة رويترز مع ماري رازنبرغر المديرة التنفيذية لجمعية المؤلفين الأمريكية، أشارت الكاتبة إلى أن ظاهرة «الكاتب الشبح» (مؤلف يكتب بأجر كتابا يُنشر باسم شخص آخر) تقليد قديم، غير أن القابلية على تأليف نصوص بشكل أوتوماتيكي عبر الذكاء الاصطناعي سيحول التأليف من فن إلى سلعة.
تمكّن الحاسوب الخارق «ديب بلو» عام 1997، من هزيمة بطل العالم في الشطرنج غاري كاسباروف، وكان سبب ذلك، حسب المحللين، أن الشطرنج الآلي التزم بالمنطق البارد والصلب، أمام تصرفات البشريّ العاطفية. ظن كاسباروف أن إحدى نقلات «ديب بلو» بشريّة، وقد أججت تلك النقلة غضبه، وشعر بالقلق والتوتر، وغيّر استراتيجيته، فخسر اللعبة، ولم يتعاف بعد ذلك من تلك الصدمة.
الشطرنج، في النهاية، هو لعبة حسابات رياضية، أما الإبداع البشريّ فهو، كما نعتقد، لعبة انزياحات شعرية وتخييلية دائمة تفاجئ الكاتب والقارئ والمشاهد، وهو ليس آلية حسابات ميكانيكية، أم أن المستقبل سيثبت خطأنا؟
«القدس العربي»