نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالا للأستاذ الزائر بمركز دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعة نورث كارولاينا، علي رضا إشراقي، قال فيه إن المحللين الخارجيين راقبوا خلال الأشهر التسعة الماضية احتجاجات إيران بحثا عن أدلة لحدوث تغير سياسي في البلاد.
فقد صدم المتظاهرون ومعظمهم من الشباب، النخبة في البلاد بشعاراتهم ومطالبهم بالديمقراطية ومجتمع أكثر انفتاحا. وكانت الاحتجاجات واسعة، لدرجة دفعت المراقبين الخارجيين إلى التساؤل بشأن مصير الجمهورية الإسلامية، وإن كان لها حظ من النجاة، أي أنها ستنهار.
للأسف، يقول الكاتب، لم يكن الأمر كذلك. لأن السلطات الإيرانية لجأت إلى القوة المفرطة لقمع التظاهرات، واعتقلت آلاف المحتجين وقتلت المئات ونظمت عمليات إعدام علنية مروعة.
مع ذلك، فإن النخبة الإيرانية تشعر بالقلق، ولكن لسبب مختلف جدا. وهذا نابع ممن سيخلف المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، البالغ من العمر 84 عاما، وعانى سابقا من الأمراض والمشكلات الصحية. فالمرشد قد يكون بصحة جيدة الآن، لكنه لن يعيش إلى الأبد، والنخب الإيرانية قلقة بشأن ما سيحدث بمجرد رحيله.
في نهاية العقد الثامن من القرن العشرين، لم تتوقع إلّا قلة صعود خامنئي لمنصب المرشد الأعلى. فلم يكن لديه المؤهلات الكافية دستوريا ليتولى المنصب
من ناحية نظرية، لا شيء يدعو للقلق، فالنظام المعمول به في الجمهورية الإسلامية لاختيار خليفة المرشد الأعلى واضح. ووفقا للدستور الإيراني، سيجتمع أعضاء مجلس الخبراء البالغ عددهم 88 عضوا ويختارون مرشدا. مع أن مجلس الخبراء لم يكشف أبدا عن القواعد الداخلية التي تحكم عملية الاختيار. ويعرف المحللون أن الهيئة تتداول فيما بينها مهما استغرق ذلك قبل التصويت، عندما تقوم باستبعاد المرشحين حسب الحاجة حتى يخرج شخص ما بأغلبية.
وبعيدا عن هذا، فإن العملية الفعلية لاختيار قائد جديد ليست بهذه البساطة. قلة من أعضاء الجمعية لديهم نفوذ سياسي حقيقي، 60% منهم تبلغ أعمارهم 70 عاما أو أكثر. وهم بدلا من ذلك وكلاء لكبار السياسيين وصانعي السياسة في النظام وقادته الأمنيين والعسكريين والمؤسسات التي يسيطرون عليها جميعا. وهذه النخبة تتسم بالانقسام، ويمكن أن تجد صعوبة لتصل إلى توافق.
ونظرا إلى انعدام الثقة والعداء المستحكم بين تياريْ الإصلاح والتشدد، فمن غير المرجح أن يكون الصراع على خلافة المرشد بينهما. فالخلافة على أقل تقدير لن تكون منظمة وربما أشبه بتلك المعركة التي جاءت بخامنئي إلى السلطة في عام 1989: أي منافسة مريرة ومقايضات وتحالفات مفاجئة تظهر وتتفكك بالسرعة نفسها، وتصفية حسابات وطعن في الظهر والتهديد بفضح الأسرار القذرة. وسيتم أيضا التلاعب باللوائح، هذا إن وجدت.
وبالتالي قد يكون الفائز النهائي مفاجأة حتى لأفضل المراقبين المطلعين.
ويعلق الكاتب أن وفاة خامنئي ستجلب معها بالتأكيد حالة من عدم اليقين والفوضى.
ففي نهاية العقد الثامن من القرن العشرين، لم تتوقع إلّا قلة صعود خامنئي لمنصب المرشد الأعلى بعد وفاة آية الله الخميني. لم يكن لدى خامنئي الذي كان رجل دين من صف الوسط، المؤهلات الكافية دستوريا ليتولى المنصب. وبالنسبة إلى الشخصيات الدينية البارزة في حينه، فقد كان خامنئي رجل دين من الوزن الخفيف ولا يستطيع إصدار الفتاوى الدينية. بل وأعلن الخميني في رسالة مفتوحة في كانون الثاني/ يناير 1988 أن آراء خامنئي كانت “ضد أقواله”، وأكد أن خامنئي لم يكن لديه فهم صحيح للعقيدة الدينية النقدية التي تبرر وجود مرشد أعلى أصلا.
لكن كيف وصل خامنئي؟ بالتأكيد كان لديه أصدقاء، وكان لديه ما يكفي من القوة ليكون منافسا للمنصب الأعلى، إلى حد كبير من خلال الفوز في الانتخابات في عامي 1981 و1985 كرئيس لإيران. لكن في ذلك الوقت، كانت الرئاسة إلى حد كبير منصبا احتفاليا وبدون أي سلطة حقيقية.
ينتمي خامنئي إلى اليمين السياسي للنظام، الذي يعتقد أن المرشد الأعلى ليس فوق القوانين الدينية التقليدية، وأن على الدولة احترام استقلالية الشركات الخاصة. لكن في تلك السنوات، كان النظام الإسلامي في الغالب تحت سيطرة اليسار. لقد تحول هذا الفصيل إلى إصلاحيين اليوم، وفي ذلك الوقت، جرى التعرف عليهم من خلال دعوتهم إلى سياسة خارجية عدوانية وتطهير كل المعارضة والعمل على بناء اقتصاد شديد المركزية.
لقد حققوا فوزا ساحقا في انتخابات عام 1988 وحصلوا على أغلبية ساحقة في البرلمان الإيراني. وبقي الزعيم الشاب اليساري مير حسين موسوي رئيسا للوزراء وسيطر اليساريون على حكومته. وكانت المناصب القضائية رفيعة المستوى، بما في ذلك رئيس المحكمة العليا والمدعي العام، في أيدي اليسار.
وامتدت قوة اليسار إلى ما وراء المؤسسات المدنية. في عام 1987، سلم الخميني بشكل مفاجئ إدارة اللجان الثورية التي كانت آنذاك القوة الأمنية المحلية الأكثر رعبا في البلاد إلى اليساريين. فقد أيدت أغلبية أعضاء الحرس الثوري الإيراني اليسار أو آية الله حسين علي منتظري الذي عُيّن رسميا خلفا للخميني.
وكانت قيادة الحرس الثوري الإيراني نفسها منقسمة بين اليمين واليسار، وكان الخميني قد طلب محاكمة اثنين من جنرالاته اليمينيين. كانت الدائرة المقربة من الخميني، بما في ذلك ابنه، تتمتع بعلاقة أكبر مع اليسار.
وتظل كيفية صعود خامنئي إلى القمة واحدا من أعظم الألغاز في الجمهورية الإسلامية، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن سجلات الإجراءات اللاحقة لمجلس الخبراء تظل سرية.
تظل كيفية صعود خامنئي إلى القمة واحدا من أعظم الألغاز في الجمهورية الإسلامية، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن سجلات الإجراءات اللاحقة لمجلس الخبراء تظل سرية.
فقبل شهرين من وفاة الخميني، شن اليسار حملة ناجحة لإزالة منتظري كخليفة الخميني المعين رسميا، فخلق فراغا دستوريا. وعقد مجلس الخبراء جلسة مغلقة طارئة. في الاجتماع، ناقش الأعضاء في البداية وجود العديد من كبار القادة بدلا من واحد، لكنهم رفضوا في النهاية أي اتفاقيات لتقاسم السلطة. ثم قاموا بالتصويت ضد أبرز رجال الدين البارزين، بمن فيهم علي مشكيني، رئيس المجلس (الذي كان صهره القوي يترأس جهاز المخابرات الإيرانية).
في النهاية، وفقا للروايات التاريخية، بدأ الأعضاء في اقتراح أسماء عشوائية، من بينهم علي خامنئي. ألقى أكبر هاشمي رفسنجاني، رئيس البرلمان، بوزنه لصالح الرئيس الإيراني. كان اليمين لا يزال هشا، وصوّت بعض أعضائه ضد خامنئي. لكن اليمين تمكن من الحصول على بعض الدعم من أعضاء اليسار من أجل انتخابه. ومع ذلك، فلا أحد يعرف حتى الآن كيف نجح اليمين في هذه المهمة، مع أن مشكيني وصف لاحقا هذه النتيجة “غير المتوقعة” بأنها “تدخل إلهي”.
بعد اختيار خامنئي، قام مجلس خاص على الفور بمراجعة الدستور الإيراني لمنح المرشد الأعلى تفويضا مطلقا غير مسبوق للحكم، وقد جرت المصادقة عليه بعد ذلك في استفتاء مثير للجدل. وبمجرد وصوله إلى السلطة، سرعان ما قام المرشد الأعلى الإيراني الجديد بالتخلص من أعدائه.
وفي السنوات الثلاث الأولى من قيادته، طرد خامنئي المسؤولين اليساريين من جميع المناصب الرئيسية تقريبا. وسرعان ما عيّن رئيسا جديدا للمحكمة. لقد أوقف وسجن قادة الحرس الثوري الإيراني غير الملتزمين. ونجح في إقصاء اليسار عن الانتخابات النيابية. في الواقع، بحلول نهاية سنته الثانية، كان خامنئي قد أنشأ عملية تدقيق مقيدة كان يتعين على جميع المرشحين الوطنيين اجتيازها قبل أن يتمكنوا من الترشح للمناصب. وتحول خامنئي في غضون سنوات قليلة من لاعب هامشي إلى زعيم إيران من دون منازع.
وعلى عكس الأنظمة الثورية الأخرى، مثل تلك الموجودة في الصين أو الاتحاد السوفيتي السابق أو فيتنام، لم تنجح الجمهورية الإسلامية مطلقا في إنشاء حزب أو منظمة أخرى يمكنها إدارة علاقات النخبة فيها.
فالجمهورية الإسلامية، بالطبع، لديها كيانات مختلفة تمثل من الناحية النظرية الدولة بأكملها. لكن من الناحية العملية، فإن هذه الهيئات في صراع دائم تقريبا. وعادة ما تخوض صراعات، مثل الاقتتال الداخلي عام 2021 داخل المكتب السياسي للحرس الثوري الإيراني، الذي أدى إلى إقالة رئيس التكتل التجاري للحرس الثوري الإيراني.
وفي شباط/ فبراير 2022، أظهر تسجيل صوتي مسرب أن قادة الحرس الثوري الإيراني، بمن فيهم الجنرال القوي قاسم سليماني، الذي قُتل في غارة جوية أمريكية في عام 2020، في صراع مستمر بسبب تورطهم في مسألة فساد مالي كبير.
وفي إيران، كانت القوة غير الرسمية للنخب دائما أكبر من تلك التي تتمتع بها المنظمات البيروقراطية الرسمية، والتي تميل إلى جعل مثل هذه الخلافات الشخصية أكثر أهمية من النزاعات المؤسسية. لكن هذه المعارك الشخصية نادرا ما تدور حول الانقسامات السياسية أو الأسباب الأيديولوجية. بدلا من ذلك، تؤدي الطموحات الخاصة للوصول إلى السلطة والسيطرة على الموارد العامة والريع الاقتصادي إلى حدوث صراعات بين النخبة.
وكان هذا واضحا بشكل خاص خلال الانتخابات الرئاسية في حزيران/ يونيو 2021. فقد قاطع بعض القادة الإصلاحيين الانتخابات ونشر العديد من المرشحين المحافظين شائعات تفيد باستبعاد المتصدر المتشدد إبراهيم رئيسي من المنافسة. وزعموا، على سبيل المثال، أن خامنئي منعه من الترشح.
في النهاية، فاز رئيسي إلا أن الخلافات داخل النخبة المحافظة كانت شديدة لدرجة أن الرئيس لم يتمكن من الإعلان عن اختياره لمنصب نائب الرئيس إلا بعد شهرين من فوزه. واستغرق الأمر منه عدة أشهر أخرى لتسمية محافظ البنك المركزي، حيث تنافست مجموعات المصالح المختلفة داخل معسكره على المقعد. ومع انهيار العملة الإيرانية، اضطر رئيسي إلى استبدال محافظ البنك المركزي في كانون الأول/ ديسمبر 2022 بشخص ينتمي إلى مجموعة مختلفة.
أظهر تسجيل صوتي مسرب أن قادة الحرس الثوري الإيراني، بمن فيهم قاسم سليماني كانوا في صراع مستمر بسبب تورطهم في مسألة فساد مالي كبير
ويقول إشراقي إن الفوضى في السياسة الإيرانية سبقت خامنئي. لكن المرشد الأعلى الحالي لم يفعل الكثير للمساعدة في ترسيخ النظام. على العكس من ذلك، فقد أنشأ خامنئي نوعا من الحكم الشخصي لم يسمح فيه للنخبة كي تطور كيانات وإجراءات قادرة على التوسط في صراعاتها أو تجميع مصالحها المتنوعة. ولا تنظر النخبة إلى مؤسسات الدولة على أنها أماكن لتحقيق رؤى سياسية منظمة، بل على أنها إقطاعيات مؤقتة يمكن من خلالها استغلال الموارد العامة وتحقيق أهدافهم الفردية.
ولعل أفضل وأحدث مثال على ذلك هو صادق أمولي لاريجاني، رئيس المحكمة العليا السابق في إيران، والعضو السابق في مجلس صيانة الدستور، والرئيس الحالي لمجلس تشخيص مصلحة النظام. فعلى الرغم من جميع مناصبه في المؤسسة، التي افترض العديد من المحللين أنها تشير إلى أنه خليفة خامنئي، إلا أنه لم يعد يتمتع بسلطة مهمة؛ فقد حكم على أحد معارفه بالسجن 31 عاما بتهمة الفساد، والشخص الذي عينه سابقا المدعي العام سيئ السمعة، والثوري عباس جعفري، يقود الآن سيارة أجرة في شوارع طهران.
من المرجح أن يميز هذا التقلب العملية التي يجري من خلالها اختيار خليفة خامنئي، وستكون فوضوية إلى حد ما، مع وجود العديد من المفسدين وقلة من الوسطاء المخلصين. المرشحون الذين يبدو أنهم مفضلون الآن، بما في ذلك رئيسي ونجل المرشد الأعلى، مجتبى خامنئي، يمكن أن يفشلوا بسرعة. سوف تتحرك النخب التي رفضها النظام السياسي الحالي للاستفادة من أكبر فراغ في السلطة في إيران منذ عام 1989.
وفي الحقيقة، فالشيء الوحيد الواضح هو أن النخبة الإيرانية المعاصرة ليست مستعدة لهذه اللحظة. فمن النادر ما تكون مستعدة لأي اضطراب، كما ظهر بوضوح التجاوب البطيء والمتوقف ثم العنيف للغاية على الاحتجاجات.
وعندما تواجه النخبة الإيرانية الأزمة، فإنها ببساطة ترتجل وتتشوش، ولن تنتهي صراعاتها عندما تنتهي عملية الخلافة، ولهذا من المرجح أن يكون الزعيم التالي لإيران زئبقيا مثل سابقه.
“القدس العربي”