ليس من شك في أن الحدود الصارمة، بين الشعر والنثر، أخذت تتهاوى، باطراد موصول بالوعي ، منذ فجر الرومانسية. لقد أخذت ماهية الأدب، المُتلبسة بالتكثُّر، والغموض، تمضي، في وقتنا الراهن، إلى تبدلها المتسارع، ولا تذعن سوى لارتداداتها القوية.
والشعر، بعدِّه فرعا من فروع الأدب، سوف يتعرض بدوره، لهزات عنيفة، وفروض إمبريقية Emprique، ومحايثات لظواهره النصية، بشكل متواصل، مع الفلسفات الما بعدية والنظريات الديجيتالية.
٭ ٭ ٭
لقد كتب نيتشه، ذات مرة، عن النص الجينيالوجي، معتبرا إياه نصا كثيفا متشظيا متناقضا، مليئا بالفجوات والاستعارات، والألغاز. إن النص الجينيالوجي – حسب نيتشه دائما- نص يروم، إلى حد بعيد، تقويض التوليفات النصية الأكثر تنظيما ومركزية، عبر الكتابة (التفلسف) بالمطرقة. يقصد الهدم والبناء (التفكيك). كان ذلك قبل جاك دريدا. ولئن كانت الكتابة الشعرية، بما هي موتيفات كتابية استباقية وتشوفية – بعيدا عن أعطاب الشعريات المتكلسة – وممارسة لحظية متحررة، ومتجددة على الصفحة، لا بالنظر إلى قواعد ومواضعات (وعي شعري) ثابتة، وإنما بالنظر، إلى غنائم وتخوم مجهولة، فإنها على نحو النص الجينيالوجي كتابة بالمعرفة، لا تتم إلا من خلال الممارسة، كما يقول ميشونيك.
إنها ممارسة شعرية ضدية، أقصد ضد دوغمائية المعيار، ضد وثوقية المؤسسة، ضد ميتافيزيقا المواضعات، كتابة يسميها الخطيبي، النص البلوري، تلك التي لا تقوم سوى بين الحدود، إن شئتم الدقّة أقول، إن الكتابة الشعرية المتحررة باعتبارها كثرة وتعددا، هي ترحيلات مستمرة نحو البين ـ بين Entre-deux، بما هو معراج لممكنات شعرية أكثر علوا.
تعمدنا هذا الاستهلال، حول المفهوم النسبي للكتابة، والكتابة الشعرية تحديدا، لأن سؤالا مخيفا تماما كالفزّاعة، كان وما يزال ينطرح باستمرار في الشعرية العربية: هل الشعر معطى ناجز وتام، وأن كل ما تحقق، هو ما في جُبّة الشعر، أم أن الجبة، توالجٌ من مقترحات شعرية، لا حد ولا حصر لها؟
٭ ٭ ٭
في الماضي، كان الشاعر هو من يبادر لإعلان الرِّدة، على بلاغة المعيار، فيما كان النقاد، في الغالب، يلعبون دور العسس. لنا أن نتذكر في هذا الصدد، أبا العتاهية وطلقته المدوية «أنا أكبر من العروض»، وأيضا أبا تمام وقولته المأثورة «لم لا تفهم ما يقال»، فيما كان الجاحظ، وقدامة، وصاحب العمدة، وآخرون، يربطون سؤال الماهية في الشعر بالوزن، واضعين القصيدة في مطب ما زال يؤرق، أو بالأحرى يشوش على الأفق الشعري العربي، إلى حد الآن. معنى هذا أن الناقد العربي، ظل مسكونا بالحدود والقيود، وبأسيجة العقل وأقيسة المنطق.
كلُّنا نتذكر المحاولات الجادة لحازم القرطاجني، لجعل التخييل أكثر انعتاقا وتحررا، من شروط الواقع، دون أن يتردد للأسف، في السقوط في فخ الأصولية الفجة، حين ربط بين التخييل والواقع، في إطار ما يعرف الآن، بالواقعية التسجيلية «فالمعاني صور حاصلة في الأذهان لأشياء موجودة في الأعيان»، بل إن مقولة الصدق والكذب الأخلاقية التي ساهمت في تنامي وعي بويطيقي ارتكاسي، جعلته لا يبرح التحديد الشائع للشعر: «كلام مخيل موزون» ليس غير. مقترحات شعرية عديدة، وضعت في المهب عمدا، وطالها النسيان، أو بالأحرى غُيّبت من طرف السلطة الثقافية المركزية، لاعتبارات بعيدة جدا عن الشعر. ماذا كان مصير الشعر الصوفي؟ شعرية لا تهادن، ولا ترتاح لمراياها. نزوع كهذا، ما كان لسلطة ثقافية، لا تؤمن بغير الصدق والأقيسة، إلا أن ترفضه. وماذا كان مصير بشار بن برد، مع مقترحه الشعري (رباب ربة البيت…)، الذي لم تقبل به الثقافة الرسمية، في حين أن الشاعر، كما هو شائع عند البعض، كان لا يشعر بدفء شاعريته، إلا داخل هذا المقترح، وأن جمهور الشعر حينها، كان يستلذ كثيرا هذه التجربة، ما يدعو إلى تصديق الرأي، الذي يزعم أن هذا النوع من القول الشعري، كان متداولا بكثرة في الهامش، بعيدا عن أضواء الثقافة المركزية، وأيضا ماذا كان مصير شعر الموشحات الأندلسية، والشعر الشعبي وغيرهما؟
إبدالات شعرية مائزة لم تصلنا، أو على الأصح، تعرضت للإبادة؛ حتى إن وصلتنا، فإنه لم يصلنا منها سوى النزر القليل، لدرجة أنك تحسبها، تجارب شاذة إلى حد هجين.
٭ ٭ ٭
فماذا عن حدود الشعر مرة أخرى؟
الشعرُ مرتعٌ خصبٌ للشاعر، مرتع مصاب بالكثرة، فقط لأنه أكبر من القصيدة. هذا ما انتهت إليه، طبعا، الأبحاث الحديثة. والتقليد، على العكس من ذلك، لا يمكنه إلا أن يُكرّس تجربة شعرية ارتكاسية، إذا صح القول. تجربة نكوصية، مشدودة إلى الماضي الشعري، ومرتهنة بمعطياته القبلية. هذا ما كانت تسعى إليه السلفية النقدية العربية في الماضي (الحكم نفسه ينطبق على من سماهم ياكوبسن بوليس الأدب)، في أفق تشكيل وعي بويطيقي ارتكاسي، والحال أن التجربة الشعرية المتنورة، هي تلك المتفتّحة على المستقبل، بالكاد نلاحقها، لأن العمل الأدبي بحسب أمبرتو إيكو، عمل مفتوح، وليس معطى ناجزا ونهائيا. إنه فضاء يتجسدن باستمرار، في تخوم لا تشي بغير اللااكتمال، واللامعقول واللامحدود. والعمل الأدبي الجيد حسب بلانشو، هو وأد مستمر للجواب، وأنه «ينسج بخيوط وأرابيسك من كلام لا يمكنه أن ينقطع». عمل يسعى دون هوادة، إلى تغيير انتظارات القراء.
وعليه، إن الوعي البويطيقي الارتكاسي، وعيٌ تطابقي وتماثلي، وعي القطيع المتحصن ضد المختلف، والطارئ، والغريب؛ فيما الوعي المتنور والمتحرر (وعي أبي تمام، وأبي العتاهية، وأبي نواس، وبشار، والصوفية تمثيلا لا حصرا) يؤسّسُ لشعرية التعدد والتهجين، مقابل الجوهر والطهرانية. الشاعر في التجربة الأولى، يكتب بالتذكر والاستظهار، أما في التجـربة الثانية، فيكتب بالصحو والنسـيان. هنا، بالضبط، يغدو للتذكر، بعدٌ نكوصي ورجعي، تذكر الماضي وتكراره، لا كذاك الذي لوح به هايدغر، أي تذكر المنسي. أما النسيان، فهو تمرينٌ استباقي، واحتلالٌ لمواقع جد متقدمة، فما أبهى لحظات الكشف، تلك المتخفية، خلف أراضِ قصية، في مملكة الشعر الرحبة.
٭ ٭ ٭
ها هي ذي، آفاق الشعر تتوالجُ في بذخ وبهاء، مع الأراضي الخفيضة للنثر، ربما هي دعوة لتغيير الجلد، أقصد: الإقامة في التخوم المترحلة، حيث الفرصة سانحة، لممكنات/شعريات جديدة. شعريات تنوجد بين حدودين: الشعر والنثر، لم لا، بين حدود متعددة. شعريات تكابدُ الأقاصي والتخوم، وتراهن على اللاانتماء الأجناسي، للتدقيق قل، على العبور المستمر.
تلك كانت ، وستظل عادة الشعريات التُّخُومية، وعلى الشاعر المؤثّر أن يذهب بالشعر، باعتباره كتلة من المقترحات التي لا يمكن قطعها إلا بالموت وحده، قلت بأن يذهب بالشعر إلى مضايقه، بلغة أبي نواس. ليست المضايق مُخيفة، كما أنها ليست مطمئنة، أما المعيار فـ«وعي نظامي» ( غادمير)، وشقي، لأنه مصدر التكرار والتطابق، وخزان ثرّ للوهن، ضد كرنفال الحياة الأثير. وينبغي للغة في الشعر، أن تسير دائما في اتجاه تبدُّلها المستمر، ضدا على كل معيار مؤسساتي، أو ميتافيزيقا شعرية. فحداثة الشعر، لا تصير ممكنة إلا عندما تنأى باللغة من مكان الاطمئنان إلى مكان الصدمة، ومن الإقامة إلى الترحل (بو سريف). فما أروع قبس اللغة، حين يضيء بجسارة نادرة، لحظة الكشف الصادمة بكل المعايير. إن تسمية الأشياء في الشعر، عطبٌ قاتل، لأنه يُذهب ثلث أرباع متعة النص، كما قال ذات مرة بول فاليري. حتى إن ظاهرة الغموض، التي تُشوّش على الفهم الارتكاسي، الذي يروم المواضعات والمتّفق عليه، كانت دائما عقيدة الحداثات الشعرية السابقة.
إن الشاعر – الجدير بهذا النعت – هو ذاك الذي لا يأبه لرجع محراثه، فامض أيها الشاعر قُدما، في قلب أرض اللغة، مثلما الفلاح الذي يقلب أرضه. كن واثقا من خطوك، وامسك بمحراثك بقوة، لا يُرهبك غموضُ الأفق، فقط تذكر ما قاله مالارميه «القصيدة سر، وعلى القارئ أن يبحث عن مفتاح»، لا يشغلك الفهم، مهما حيّرهُ شعرُك.
شاعر وكاتب مغربي
“القدس العربي”