تساءل كل من أرون ديفيد ميللر، الزميل البارز في وقفية كارنيغي للسلام العالمي، وستيفن سايمون، من معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا، بمقال نشرته مجلة “فورين بوليسي”، حول ما إذا كان التطبيع السعودي- الإسرائيلي يستحق العناء؟
وقالا إن تفكير الإدارة الأمريكية يقوم على أن علاقات الولايات المتحدة مع السعودية مهمة لدرجة لا يُسمح لها بالانهيار.
وهذا ما يدور في ذهن وزير الخارجية أنطوني بلينكن، في زيارته للسعودية التي تبدأ الثلاثاء، وتأتي بعد زيارة مستشار الأمن القومي جيك سوليفان للرياض، واستمراراً في مغازلة شريك إشكالي. لكن التحول الأخير في العلاقة المعقدة هو دفع الولايات المتحدة باتجاه فحص المياه بشأن اتفاقية تطبيع إسرائيلية- سعودية. وهذا هدف طموح يستدعي حل لغز ثلاثي، أهم طرف فيه هو منظور الولايات المتحدة لمطلب ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، الذي قيل إنه طالب بضماناتٍ أمنية، وبدعم أمريكي، لإنشاء أول مفاعل نووي سعودي للأغراض المدنية، وحق الرياض في إدارة عملية الوقود النووي بعيداً عن رقابة أمريكا، أو التحكم الدولي. ويعلق الكاتبان بأن تطبيعاً كاملاً للعلاقات بين إسرائيل والسعودية سيكون حدثاً كبيراً، لكنه لن يكون تحويلياً بالدرجة التي يتوقعها الكثيرون.
المجلة: الملك سلمان لديه موقف تقليدي من إسرائيل والتزام بالقضية الفلسطينية، والسؤال: هل يريد الملك تشويه إرثه والمضي في اتفاق مع إسرائيل.
ويجب على واشنطن أن تكون حذرة في ما ستقدمه من ضمانات ومحفزات أخرى للملك المقبل، الذي تشير علاقاته القريبة مع الصين وروسيا أنه ليس تابعاً لإدارة بايدن.
وفي هذه الأيام تبدو السعودية في كل مكان. وأياً كانت رؤية الرئيس جو بايدن من ولي العهد، فإن أفكاره يحتفظ بها لنفسه، فقد مضت الأيام التي تعهّد بها بجعل السعودية “منبوذة”، وتحميلها “تداعيات” خفض إنتاج النفط.
وعليك ألا تنسى دعم ولي العهد لروسيا في أوبك+، والذي ساعد فلاديمير بوتين على مواصلة الحرب في أوكرانيا، ولا الانفراجة في العلاقات السعودية- الإيرانية، والتي رعتها الصين، وكذا دور السعودية المهم في إعادة بشار الأسد للبيت العربي، ومع ذلك فقد قررت الولايات المتحدة أنها لا تستطيع تنفير الحاكم الفعلي للسعودية.
وهناك أسباب وجيهة لهذا الموقف، فالرياض تُعْتَبر أكبر منتج متأرجح في سوق النفط العالمي، ويبدو أنها راغبة بالتحلل من اليمن من خلال اتفاق وقف إطلاق للنار دائم مع الحوثيين. وما يثير الدهشة ترحيب ولي العهد بالرئيس الأوكراني فولدومير زيلينسكي، في القمة الأخيرة بجدة، حيث انتقد دول الخليج لعدم تقديم دعم أكبر لبلاده.
وما هو واضح أن السعودية لم تعد مقيدة بالمدرسة الدبلوماسية الأمريكية “إما معنا أو ضدنا”، فقد حسّنت علاقاتها مع بعض خصوم واشنطن، مثل إيران والصين، وخصوم صغار مثل الأسد و”حماس”.
وبالطبع هناك إسرائيل واتفاقيات إبراهيم، فقد ورثت إدارة بايدن عمليتيْ سلام لهما علاقة بإسرائيل، واحدة بائدة مع الفلسطينيين، وأخرى فاعلة رعتْها إدارة ترامب، والمعروفة باسم اتفاقيات إبراهيم، وظلت مستمرة رغم المواجهات مع الفلسطينيين وانتخاب حكومة متطرفة في إسرائيل.
وظلت السعودية الجائزة الكبرى في عمليات التطبيع، ففي أثناء التحضير لزيارة بايدن إلى السعودية، الصيف الماضي، حققت واشنطن بعض الإنجازات المتواضعة، مثل اتفاق ثلاثي تعيد فيه مصر جزيرتين للسعودية، واحتاج موافقة من إسرائيل. وكذا حصلت واشنطن على موافقة من السعودية لاستخدام الطيران التجاري الإسرائيلي المتّجه للهند والصين أجواءَ السعودية. ولا يزال اتفاقٌ يتعلق بسفر الحجاج مباشرة من إسرائيل إلى السعودية محلاً للتشاور.
وهناك تقارير تتحدث عن لقاء تم بين ولي العهد السعودي وبنيامين نتنياهو (نفته أوساط دبلوماسية). إلا أن التطبيع الشامل لا يزال بعيداً، فقد مضى عام في الحديث حول ما تريده السعودية من أجل التقدم في هذا المجال. ولكن الأمور أصبحت في الفترة الأخيرة أكثر تركيزاً. ففي خطاب ألقاه مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، الشهر الماضي، تحدث بشكل مفتوح عن هذا الهدف. وسافر بعد ذلك مباشرة إلى السعودية، واجتمع مع محمد بن سلمان، وطرح فكرة اتفاقية. ثم قام المسؤولون الأمريكيون بتقديم إحاطة لنتنياهو حول المناقشات.
ولا يعرف أحد سر التحركات العاجلة هذه، فلربما تريد إدارة بايدن إظهار أنها لا تزال موجودة بالمنطقة بعد الصفقة السعودية- الإيرانية برعاية صينية. وسيكون أي اتفاق نافع لبايدن في السياسة المحلية، وبخاصة أنه يتجه نحو عام انتخابي. ويشعر المسؤولون بأن اتفاقاً في هذا الوقت مفضّل، قبل أن ينشغل بايدن في حملاته الانتخابية لعام 2024. وهم يحاولون إقناع محمد بن سلمان للتوصل لاتفاق مع رئيس ديمقراطي.
تفكير الإدارة الأمريكية يقوم على أن علاقات الولايات المتحدة مع السعودية مهمة لدرجة لا يُسمح لها بالانهيار.
وبعيداً عن التعجّل الأمريكي، لا يعرف إنْ كانت السعودية أو إسرائيل تشعران بنفس الحس العاجل. إلا أن الطريق نحو التطبيع مليء بالعقبات، واحدة منها مسألة حاجة أو رغبة السعودية بالتطبيع، ففي ظل عدم استلطاف محمد بن سلمان لبايدن، فلربما فَضَّلَ التعامل مع زعيم مختلف، مثل الرئيس السابق دونالد ترامب والمرشح الحالي. وربما تخيل المرء أنه ينتظر نتائج الانتخابات الأمريكية، في 2024، قبل أن يخاطر بالتحرك نحو إسرائيل.
مسألة أخرى، وهي أن محمد بن سلمان ليس ملكاً، مع أنه حاكم فعلي، فوالده الملك سلمان لديه موقف تقليدي من إسرائيل والتزام بالقضية الفلسطينية، والسؤال هل يريد الملك تشويه إرثه والمضي في اتفاق مع إسرائيل، التي تقول علناً إن الضفة الغربية والقدس الشرقية هما جزء من أرض إسرائيل. وفي الوقت نفسه تحاول تغيير الوضع الراهن في الحرم الشريف، وتسمح بالمسيرات في الحي الإسلامي وهتافات المشاركين فيها “الموت للعرب”؟
تعتمد مكانة السعودية في العالم الإسلامي على كونها حارسة للحرمين في مكة والمدينة، وأي قرار باتجاه إسرائيل قد يؤثر على مكانتها، وبخاصة حالة استمرت هذه بقمع الفلسطينيين وأثارت مسلمي العالم.
وهناك التقارب السعودي- الإيراني الذي قد يدفع طهران لعدم دفع برامجها النووية بدرجة تؤدي لمواجهة مع إسرائيل وأمريكا. وهناك قلق من أن يقود انضمام السعودية لاتفاقيات إبراهيم لتقويض ضبط النفس الإيراني، والتأثير على التقارب الذي رعته الصين بين الرياض وطهران.
وأخيراً، هناك ما يطلبه الأمير محمد بن سلمان ثمناً للتطبيع، فهو لا يطلب ضمانات أمنية وأسلحة متقدمة، بل ومساعدة في بناء مفاعل نووي للأغراض المدنية. وسيكون التطبيع السعودي- الإسرائيلي خبراً مفرحاً لداعمي إسرائيل في الكونغرس، لكن هناك حدوداً لما يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة ثمناً لهذا. ويعتقد الكاتبان أن التطبيع هو هدف قائم منذ مدة، ويستحق متابعة من الولايات المتحدة، والسؤال هو إن كان يستحق العناء في ظل المناخ السياسي الحالي. ويجب على واشنطن أن تدفع مقابله، وأن تحصل على مقابل. والتطبيع اليوم ليس مقنعاً وقوياً كما في الماضي، فالسعودية وإسرائيل حليفان تكتيكيان ضد طهران، صحيح أن هناك تقارباً بين الرياض وطهران، لكن التعاون الأمني والاستخباراتي السري بين إسرائيل والسعودية أصبح منتظماً. وإسرائيل اليوم هي قوة إقليمية بترسانة نووية، وصناعة دفاعية متقدمة، ودخل عال للفرد، وبعلاقات حية مع الإمارات والبحرين. وفي الوقت نفسه هناك تنّوع في إسرائيل والسعودية في صورة السياسة الخارجية لكل منهما، وقد كشفت كل واحدة منهما عن مدى من الاستقلالية عن واشنطن.
ودخول السعودية نادي إبراهيم لن يؤثر على هذا التوجه الذي جاء نتاجاً لتحول في مصالح دول المنطقة، وكذا الولايات المتحدة. ولن يؤدي التطبيع لتقليل الرياض علاقاتها مع الصين أو روسيا أو تميل أكثر لمتابعة واشنطن، فقد ولت هذه الأيام.
المجلة: يجب على واشنطن أن تكون حذرة في ما ستقدمه من ضمانات ومحفزات للملك المقبل، الذي تشير علاقاته القريبة مع الصين وروسيا أنه ليس تابعاً لإدارة بايدن.
وفي العالم الجديد، لم تعد هناك قيمة للاتفاقيات الإستراتيجية الرسمية بين السعودية وإسرائيل. ولن يغير بالضرورة الميزان العسكري من إيران. ولو قررت أمريكا ضرب البنية النووية الإيرانية فستقوم بهذا من دون تنسيق مع إسرائيل أو دول الخليج، إلا إذا قررت الأخيرة المشاركة رداً على هجمات إيرانية، كما فعلت في الأرجنتين، أو ضرب المنشآت النفطية في الفترة الأخيرة. كما لن يغير اتفاق سعودي- إسرائيلي مسار علاقة أي منهما مع الولايات المتحدة. فالثمن الذي ستدفعه أمريكا مقابل التطبيع أكبر من قيمة الاتفاق، بما في ذلك ضمانات أمنية ومنفذ على الأسلحة المتقدمة ومنظور مفاعل نووي.
في النهاية فإن الأسلحة المتقدمة للسعودية لم يحظرها البيت الأبيض، بل الكونغرس. والفائدة الوحيدة من الاتفاق، لو حدث، هو أنه سيطلق عنان جماعات الضغط الإسرائيلية لإقناع الكونغرس بتمرير صفقات الأسلحة للسعودية. ولو كان هذا هو الحال، فإن طلبه من إدارة بايدن لا معنى له. ولن توافق إدارة بايدن نقل الخبرة النووية دون سيطرة عليها. ولن تعطي السعودية علامة مرور بعد موافقة الإمارات على القيود لمفاعلها النووي. وكشف موقع “سيمفور” أن السعوديين اقترحوا أرامكو النووية، وهو مشروع أمريكي- سعودي مشترك يمنح الشركات الأمريكية سيطرة مباشرة ودوراً في تطوير الطاقة النووية. والعقبة هي أن التخصيب سيتم في داخل السعودية وهو أمر ترددت أمريكا بالموافقة عليه سابقا. كما أن الضمانات الأمنية من ذلك النوع الذي يطالب به محمد بن سلمان، لن تكون معروضة.
فمن النادر أن يمرر الكونغرس اليوم معاهدات، والاتفاقيات التنفيذية، مثل اتفاقية إيران النووية، ليست مقدسة. وحتى الوعد باتفاقية مقنّنة، كتلك التي أنشأت الناتو، لن تمنح سوى الاستشارة حالة الهجوم، ولم يعد هناك من يعد بتدخل عسكري. ولأن العوامل الملموسة في التحالفات الأمريكية، وبخاصة الناتو، ليست علامة على العلاقات الأمريكية- السعودية، وبخاصة الطبيعة الشمولية للنظام السعودي وتصميمه على زيجة مفتوحة مع الولايات المتحدة.
المجلة: السعودية لم تعد مقيدة بصيغة “إما معنا أو ضدنا”، فقد حسّنت علاقاتها مع بعض خصوم واشنطن، مثل إيران والصين، وخصوم صغار مثل الأسد و”حماس”.
لكن علامَ ستحصل واشنطن مقابل كل هذا؟ ليس كثيراً، ربما حصلَ بايدن على دفعة، ولكن اتفاق تطبيع لن يهم كثيراً مع قرب الانتخابات. ولربما طلبت أمريكا وضوحاً في أي صفقة ترعاها الصين، وضمانات أمنية في أي نقل للتكنولوجيا والسلاح. وربما طلبت بأن تأخذ السعودية بالحسبان المصالح المالية الأمريكية في أي قرار تتخذه أوبك+، إلى جانب تنسيق قريب بشأن التعاون السعودي- الإسرائيلي في إيران. وعلى واشنطن ربط التطبيع بتحسن ظروف حقوق الإنسان في السعودية، والاشتراط على إسرائيل التراجع عن سياستها القمعية في الضفة الغربية، والتوقف عن خطط الضم. وفي هذه النقطة فإن الولايات المتحدة قد تحول الضغط على إسرائيل للسعودية، ولو وافقت الحكومة المتطرفة فإن الأمل سيكون قصيراً نظراً للطبيعة غير المستقرة للسياسة الإسرائيلية. وربما كانت المحاولة تستحق العناء لو كان الثمن الذي ستدفعه أمريكا صغيراً.
يبقى أن الضمانات الأمنية ليست أمراً صغيراً، ولهذا السبب يطالب بها محمد بن سلمان، منذ دخول بايدن البيت الأبيض. ولن تقدّم أمريكا تعهداً بالدفاع عن المملكة حالة الهجوم عليها، وبالمقابل لن تقبل السعودية بالمسؤولية المتبادلة في الضمانات، مثل مساعدة أمريكا في هجوم على إيران، أو الحد من علاقاتها مع الصين.


























