الأفلام التي تعتمد على السيرة الذاتية لشخصيات عامة معروفة، كانت قد استهوت مبتكري الفن السابع منذ بدايات ظهوره عام 1895، فقد قدم جورج ميلية عام 1899 فيلما عن شخصية جان دارك، ولم يكن قد مضى على اكتشاف السينما سوى أربع سنوات، واستمرت محاولات المخرجين، على مدى تاريخ السينما، وحتى الآن، بتقديم أفلام مستوحاة من السير الذاتية لشخصيات تاريخية ومعاصرة، كانت قد تركت أثرا في الذاكرة الإنسانية، وليس مهما إن كان هذا الأثر جميلا أم قبيحا، بل المهم أن يتم الكشف عن سيرة الشخصية أمام المتفرجين. وقد أشارت دراسات سينمائية إلى أن الجمهور لديه شغف كبير جدا في الاهتمام بالافلام التي تحاكي سير الشخصيات الشهيرة، وهذا ما توصل إليه الناقد علاء المفرجي في كتابه الموسوم «أفلام السيرة الذاتية» الصادر عن دار المدى عام 2018.
استند سيناريو فيلم «مدام كلود» إخراج سيلفي فرهيد، إنتاج 2021 على وقائع حقيقية، وردت في كتاب سبق أن أصدرته عام 1975 فرناند غرودي (1923- 2015) أشهر قوَّادة في تاريخ فرنسا المعاصر، التي أُشتهرت باسم «مدام كلود»وقد حمل الكتاب عنوان «ألو، نعم».
تشابك العلاقة
الفيلم يفتح ملف العلاقة بين السياسة والدعارة، وما تشير إليه رمزية هذه العلاقة من أن الدعارة لا ترتبط فقط بعمليات بيع الجسد لمن يدفع المال، بل تتعداها إلى من يبيع مواقفه للآخرين مقابل ثمن ما، وفي كواليس عالم السياسية يشيع هذا السلوك بين الخصوم، بقصد نصب الفخاخ للخصوم والإيقاع بهم وإزاحتهم عن الطريق، حتى بدا مثل هذا النهج لكل من يقترفه، كما لو أنه أمر طبيعي، ولا يدعوه إلى الشعور بالخجل، بينما لو نظرنا إلى أي سياسي إذا ما دخل في لعبة بيع مواقفه لأطراف أخرى مقابل مكاسب مادية، لن يكون عمله هذا بعيدا عن فعل الدعارة، لأن ما يباع في الحالتين هو الشرف بمعناه الجسدي والمعنوي، وإذا ما كان هنالك من مخاطر مجتمعية وأخلاقية في دعارة الجسد، فإن الدعارة في المواقف السياسية أشد تأثيرا، لأن نتائجها تتعلق بحياة المئات من البشر الذين يدَّعي السياسي تمثيلهم.
تساؤلات لا بد من طرحها
أهمية فيلم مدام كلود ليس لأنه يتناول سيرة امرأة امتهنت الدعارة، إنما لأن في هذه الشخصية جوانب خاصة بها تختلف عن اللواتي مارسن هذه المهنة، ما جعلها تنفرد في مكانتها عن غيرها، وأضفى على سيرتها غموضا وحضورا ظل يرافقها، إلى أن أصدرت كتابها الذي أضاء الكثير من الزوايا الخفية التي لها صلة بعالم السياسة. ومن هنا يأتي تركيز الفيلم حول علاقة التخادم التي جمعت بين مدام كلود والأجهزة الأمنية الفرنسية، بعد أن تلجأ المخابرات الفرنسية إلى تجنيدها لجمع معلومات عن شخصيات عامة فرنسية وأجنبية، ما يدفع المتلقي إلى أن يطرح تساؤلات عدة، منها ما يتعلق بمشروعية هذه العلاقة، ليس من الناحية الأخلاقية، بل من جهة انتهاكها لحقوق الأفراد وحياتهم الخاصة، بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية، فكيف إذا كان المستهدف شخصية عامة لها حضورها المؤثر في المجتمع؟ كما يطرح سؤال آخر عن مدى الرداءة التي تنتهي إليها أساليب السلطة وأجهزتها الأمنية لأجل الحصول على معلومة ما؟ وفي إطار البحث عن إجابات لهذه الأسئلة، هناك مؤشرات كثيرة في التاريخ توضح أبعاد وتشابكات العلاقة بين السياسة والدعارة.

أنشطة سريّة
يرصد الفيلم حياة هذه الشخصية بعد أن وصلت إلى مكانة مؤثرة مع نهاية خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وذلك من خلال إدارتها لقصر كبير يضم في غرفه وأروقته أكثر من 500 فتاة تعمل في مهنة البغاء تحت إدارتها. وكانت شديدة الحرص عندما يتقدمن للعمل لديها على أن يتمتعن بالذكاء، وأن تتوفر فيهن مواصفات جسدية وجمالية، بعضهن ينتمين إلى عائلات لها مكانتها الرفيعة، من بينهم فتاة مثقفة تحمل شهادة جامعية ووالدها وزير في الحكومة الفرنسية، لذا فضَّلتها مدام كلود على بقية الفتيات واعتمدت عليها إذا ما كان الزبون على مستوى عال من المكانة والرفعة، مراهنة بذلك على ثقافتها التي تعينها على التفاهم معه.
زعماء وفنانون في الفخ
بفضل ما كانت عليه شخصية مدام كلود من قوة، لذا عملت المخابرات الفرنسية على تجنيدها في أنشطتها السرية لجمع معلومات عن طريق فتياتها. فتمكنت من أن تستقطب بأنشطتها إلى بيتها وخارجه، شخصيات عامة، رجال سياسة ومال وفنانين، من بينهم رؤساء دول، وردت أسماؤهم صريحة في الفيلم مثل: الزعيم الليبي القذافي، رئيس جمهورية تشاد، رئيس جمهورية افريقيا الوسطى، الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو، جون كيندي.. ومن الفنانين مارلون براندو وآلان ديلون ومارلين مونرو والرسام سلفادور دالي، وغيرهم.
كانت ترسل للزعماء أفضل ما لديها من بضاعة إلى بلدانهم، ليكون نشاطها جزءا من الخدمات التي تقدمها للمخابرات الفرنسية، وبفضل هذه العلاقة السرية، توسع عملها ونشاطها، ما مكنها من أن تجني أموالاً طائلة، لطالما حلمت بها مُذ كانت ابنة عائلة فقيرة تسكن الريف، وتعاني من قسوة الحياة في ظل أزمات نفسية واجتماعية كانت تعصف بحياة والديها، ما أدى بوالدتها إلى الانتحار، لذا قررت الرحيل عن القرية والاتجاه نحو باريس للعيش والعمل في بيوت المتعة إلى أن أصبحت أشهر قوادة في باريس.
تحولات وانعطافات
الأوضاع العامة في فرنسا دائما ما تشهد تحولات في إطار التحالفات السياسية لقوى السلطة، ما يفرض نشوء علاقات جديدة على حساب قوى وعلاقات قديمة، تطوى صفحتها ويتم شطبها أو التخلص منها، وهذا ما جرى لمدام كلود، حيث تم الاستغناء عن خدماتها التي كانت تقدمها لصالح المخابرات الفرنسية، ورفعت عنها الحصانة التي تمتعت بها ومنحتها سلطة وسطوة للتخلص من أي شخصية، إذا ما سببت متاعب لها أو لفتياتها، حتى لو كانت من رجال المافيا والعصابات الخطيرة. فجأة تجد نفسها مطاردة من قبل أجهزة الأمن، فتدخل حياتها في مرحلة صعبة، على إثرها تنهار امبراطوريتها، فما كان منها إلاَّ أن تهرب إلى أمريكا، ورغم نجاحها في الهرب لكن السلطات الأمريكية تلقي القبض عليها وتودعها في السجن قبل أن يتم ترحيلها إلى فرنسا، لتحكم عليها السلطات الفرنسية بالسجن لمدة عشرين عاما «لمعرفتها أموراً أكثر من اللازم» وهذا لوحده كان سببا كافيا لسجنها ومعاقبتها. وبعد أن قضت مدة محكوميتها خرجت من السجن، لتجلس مع نفسها وحيدة وهذا ما دفعها إلى تبدأ في سرد تفاصيل سيرتها في كتاب.
الفيلم من الناحية الفنية قد لا يكون على قدر من العمق في تناول الشخصية الرئيسية، إذ بدأ أقرب في بنائه إلى الاهتمام بالتشويق على حساب التوقف طويلا أمام التفاصيل التي صنعت شخصية مدام كلود، ومن ثم تسببت في تجريدها من قوتها.
سبق أن تم إنتاج فيلم آخر مستوحى أيضا من سيرتها عام 1986 بعنوان «الأفضل هو الآخر»، كما صدرت عام 1994 رواية للكاتب ميشال لافون بعنوان «رواية مُعاشَة».
كاتب عراقي
“القدس العربي”


























