ترجمة: علاء الدين أبو زينة
بينما تتحرك المنطقة نحو التكيف مع نظام متعدد الأقطاب، يجب على واشنطن تعزيز المزيد من التعاون والتنمية الاقتصادية.
* * *
وسط إعادة فتح البعثات الدبلوماسية الإيرانية والسعودية بعد توقف دام سبع سنوات، والتي ترمز إلى تقاربهما الرسمي والديناميات الجيوسياسية المتغيرة في منطقة الخليج العربي، وصل وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى الرياض الأسبوع قبل الماضي بأجندة عفا عليها الزمن.
أدى فشل واشنطن في التكيف مع الحقائق الإقليمية الجديدة في تركها معزولة، حيث لم يعد لسياساتها صدى لدى شركائها في المنطقة. وفي حين أن الولايات المتحدة ما تزال “تستثمر بعمق” في المنطقة في المستقبل المنظور، فإن سياساتها أصبحت العائق الرئيسي أمام المشاركات الدبلوماسية، وكذلك التنمية الاقتصادية والتكامل في الشرق الأوسط الكبير.
شهدت منطقة الخليج فترة من التوترات العسكرية المتصاعدة في العام 2019. وفي ذلك الحين، واجهت المملكة العربية السعودية هجمات مباشرة بالصواريخ وبطائرات من دون طيار على منشآتها النفطية، في حين واجهت الإمارات العربية المتحدة تهديدات مماثلة في موانئها. وأكدت هذه الحوادث مخاطر التوترات المطولة مع إيران، وكشفت عن إحجام الولايات المتحدة عن استخدام القوة العسكرية للرد على مثل هذه الاستفزازات. ولم تسهم إدارة دونالد ترامب فعليًا في التسبب بالأزمة فحسب، وإنما أوضحت أيضا أنها غير راغبة في حلها.
قبل وقت قصير من تنصيب جو بايدن في كانون الثاني (يناير) 2021، عقدت الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي قمة في العُلا، المملكة العربية السعودية، لإنهاء الحصار المفروض على قطر منذ أكثر من ثلاث سنوات. وبحلول الوقت الذي عُقدت فيه القمة، كانت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة قد بدأتا بالفعل محادثات مع إيران لتهدئة التوترات. واليوم، باستثناء البحرين، نجح جميع الأعضاء الخمسة الآخرين في مجلس التعاون الخليجي في إصلاح خلافاتهم فيما بينهم ومع طهران. وحتى الدول العربية المعادية تقليديًا لإيران، أصبحت تستكشف الآن إمكانيات التقارب لمواءمة سياساتها مع التطورات الجيوسياسية التي تتكشف في كل أنحاء الشرق الأوسط.
في السابق، دعت المملكة العربية السعودية، إلى جانب الإمارات العربية المتحدة والبحرين، بقوة إلى انسحاب إدارة ترامب من “خطة العمل الشاملة المشتركة” وفرض حملة ضغط قصوى على إيران. واليوم، لا تدعو هذه الدول إلى إحياء الاتفاق نفسه الذي كانت قد عارضته بشدة فحسب؛ بل إنها تتعامل أيضًا مع إيران على مستويات غير مسبوقة. وينبع هذا التحول من اعترافها الواضح بأن الصراع الدائم مع طهران يشكل تهديدًا لأجندات التنمية الاجتماعية والاقتصادية قصيرة وطويلة الأجل.
في حين انتقلت الدول العربية من سياسة تقوم على التوتر والصراع إلى سياسة تعتمد الحوار والتعاون، يبدو أن واشنطن مصممة على إدامة الصراع في الخليج العربي. منذ العام 2017، قامت الولايات المتحدة بعدة محاولات لإنشاء تحالف مناهض لإيران. وتضمنت هذه الجهود مبادرات مثل “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي” (MESA)، التي تهدف إلى إنشاء منظمة شبيهة بحلف شمال الأطلسي، تضم دولاً عربية وواشنطن وتل أبيب. كما سعت قمة وارسو في العام 2019 إلى تحقيق أهداف مماثلة.
وبدعم من إدارة بايدن ومشاركتها، عقدت إسرائيل قمة في النقب، جمعت وزراء خارجية الإمارات والبحرين ومصر والمغرب. وصرح وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، يائير لابيد، بأن القمة تهدف إلى بناء هيكل أمني جديد يركز في المقام الأول على تخويف وردع “أعدائنا المشتركين، وفي المقام الأول إيران ووكلاؤها”.
ومع ذلك، فإن لدى المشاركين العرب في تلك الاجتماعات وجهة نظر مختلفة. تجدر ملاحظة أن الإمارات صاغت تطبيع علاقاتها مع إسرائيل في المقام الأول بالمعاني الاقتصادية، وامتنعت عن تأييد أي مبادرات أمنية أو عسكرية تستهدف إيران علنًا.
وفي العام الماضي، بينما كان بايدن يسافر إلى جدة، تم تقديم اقتراح لتطوير علاقة أميركية سعودية جديدة بموجب “ميثاق استراتيجي”، فضلاً عن إنشاء شراكة مشتركة للدفاع الجوي والصاروخي بين الدول العربية والولايات المتحدة وإسرائيل، أُطلق عليها اسم “تحالف الدفاع الجوي في الشرق الأوسط”، بهدف مواجهة إيران وعزلها. ومع ذلك، توقفت تلك المقترحات -حتى أن المبادرة البحرية النشطة التي تقودها الولايات المتحدة في الخليج العربي باتت تتفكك الآن.
كان العامل الإسرائيلي يلوح بشكل كبير على أفق احتمالات توثيق العلاقات بين الدول العربية وإيران. وتم التعامل الدبلوماسي لدولة الإمارات العربية المتحدة مع إيران على خلفية “اتفاقيات إبراهيم”. وفي حين أنه كان من شأن ذلك أن يوتر العلاقات بين طهران وأبو ظبي، لم تشكل إقامة علاقات بين الإمارات وإسرائيل عائقًا أمام الارتباطات الدبلوماسية بين طهران وأبو ظبي. وعلى الرغم من أن المسؤولين الإيرانيين انتقدوا الإماراتيين على تفاعلهم مع تل أبيب، إلا أن التطورات في العلاقات الثنائية الإيرانية الإماراتية تُظهر كيف يتم الفصل بين القضايا الأيديولوجية في الحسابات الجيوستراتيجية.
في العام 2017، كنتُ قد جادلت بأن الدول العربية في الخليج العربي يجب أن تختار بين المسارات التي اقترحتها إيران وإسرائيل. وفي ذلك الوقت، دعت إيران إلى تفعيل دبلوماسية إقليمية، في ما يؤدي إلى “مسعى هرمز للسلام”، في حين سعت إسرائيل إلى تشكيل تحالف عربي-إسرائيلي لعزل إيران ومواجهتها. واليوم، تشير التطورات الدبلوماسية غير المتوقعة في المنطقة إلى أن الدول العربية نفسها ترسم الآن مسارًا للمستقبل، مسارًا يتعين على إيران وإسرائيل أن تتعلما فيه التعايش مع جيرانهما العرب ومع بعضهما بعضا.
مما لا شك فيه أن هذا الانفراج سيؤدي إلى توسيع التنافس بين إيران والمملكة العربية السعودية، ليس فقط في الشرق الأوسط، ولكن أيضًا في السياق الأوراسي الأوسع. لا تريد الرياض أن تكون الصين وروسيا، وهما قوتان عالميتان، متحالفتين مع طهران وحدَها. وبالمثل، لا تحرص إيران على أن تكون الطرف المفضل الثاني لدى بكين وموسكو.
كما يندرج في هذا السياق الاتجاه المتزايد لانضمام إيران والمملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى إلى التكتلات الاقتصادية والأمنية غير الغربية. وتعمل “منظمة شانغهاي للتعاون”، ومجموعة “بريكس”، وغيرهما من التجمعات المماثلة حاليًا كهيئات تداولية واقتصادية ذات توجه اقتصادي، والتي لم تُبنَ للعمل ضد أي دولة أو مجموعة من البلدان بعينها. وأصبح من الواضح أنها لا توجد دولة في المنطقة، باستثناء إيران، على استعداد للمشاركة في أي تركيبة إقليمية من شأنها أن تنفر قوة عالمية أخرى. وتشير هذه التحولات إلى نشوء نظام جديد متعدد الأقطاب، حيث يعطي اللاعبون الإقليميون الأولوية لتنميتهم الاقتصادية الخاصة لضمان البقاء والازدهار في عصر ما بعد النفط.
أتاح غياب الولايات المتحدة عن هذه التطورات الإقليمية الأخيرة فرصًا للاعبين عالميين آخرين لتأكيد نفوذهم وتعزيز التعاون متعدد الأطراف. وفي حين أن الولايات المتحدة ما تزال بعيدة عن المشهد الجيوسياسي المتطور في الخليج، انتهزت الصين والاتحاد الأوروبي الفرصة لتعزيز مشاركتهما الإقليمية. وأدت جهود الصين إلى توقيع الاتفاق الذي أشر على الانفراج الإيراني السعودي، ويخطط البلد لعقد قمة على مستوى المنطقة في بكين في وقت لاحق من هذا العام لتعزيز نهجه متعدد الأطراف.
وفي الوقت نفسه، نشر الاتحاد الأوروبي بيانه المشترك حول “الشراكة الاستراتيجية مع الخليج” في أيار (مايو) 2022، وفي نيسان (أبريل) 2023، تم تعيين لويجي دي مايو ليشغل المنصب المستحدث: المستشار الخاص للاتحاد الأوروبي لمنطقة الخليج. وقد لعب الاتحاد الأوروبي دورًا محوريًا في دعم “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة”، الذي جمع دول المنطقة معًا في آب (أغسطس) 2021 ومرة أخرى في كانون الأول (ديسمبر).
توفر القمة المقبلة بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي والصين في بكين والاجتماع الثالث لمؤتمر بغداد في وقت لاحق من هذا العام سبلاً متعددة الأطراف للحوار والتعاون. وتجدر ملاحظة أن الولايات المتحدة ستغيب عن كلا الحدثين، وهو ما يسلط الضوء على عزلتها وتقلُّص نفوذها في المنطقة.
في حين أن نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة ربما يكون قد تضاءل في السنوات الأخيرة، إلا أنه لا يمكن استبعاد دورها كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن الديناميات المتغيرة وظهور مراكز قوة بديلة يستلزمان إعادة تقويم للسياسات الأميركية حتى تتماشى مع التحولات الجيوسياسية الجديدة في كل أرجاء الشرق الأوسط. ومن خلال تبني نظام متعدد الأقطاب وتعزيز التنمية الاقتصادية، تهدف المنطقة إلى ضمان ازدهارها واستقرارها. ويجب على واشنطن أن تسمح للمنطقة بمواصلة استكشاف هذه السبل الدبلوماسية وعدم عرقلتها.
*مهران هاغريان Mehran Haghirian: هو مدير المبادرات الإقليمية في “مؤسسة البورصة والبازار” وزميل زائر في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. وهو أيضا طالب دكتوراه في جامعة قطر.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: US lags as the Middle East embraces a new geopolitical era
“الغد”