شهدت روسيا في 4 الجاري جريمة تذكّر بمقتل الصحافي اللبناني سليم اللوزي وتقطيع أصابع يده العام 1980. الثلاثاء المنصرم توجهت مندوبة صحيفة Novaya الروسية المعارضة يلينا ميلاشينا إلى عاصمة الشيشان لتغطية صدور حكم بحق سيدة شيشانية حوكمت لأمومتها شابين معارضين فرّا إلى الخارج من وجه “العدالة” الروسية. في الرابعة والنصف من صباح الثلاثاء استقلت ميلاشينا ومحامي الدفاع عن السيدة الشيشانية ألكسندر نيموف سيارة تاكسي من مطار العاصمة الشيشانية غروزني متوجهة إلى المدينة. بعد مئات الأمتار اعترضت طريقهما ثلاث سيارات يستقلها مسلحون مقنعون، انتزع أحدهم سائق التاكسي من خلف المقود ورماه خارجاً، وقاد السيارة إلى مكان جانبي. نزل من السيارات بين عشرة وخمسة عشر شخصاً، وبدأو بضرب الصحافية والمحامي بالأيدي والأرجل مع تهديد بالقتل ومسدس إلى الصدغ وترديد عبارة “لقد حذرناكما”. تركوا الصحافية مغطاة بطلاء أخضر اللون وإصابة في الجمجمة وارتجاج في الدماغ ورأس حليق وأصابع مكسرة، والمحامي مع طعنة سكين في الرجل.
الناطق بإسم الكرملين دمتري بيسكوف قال الثلاثاء بأن الرئيس أُطلع على الحادث. وعن سؤاله كيف يقيم الكرملين الإعتداء، قال بأن التقييم يجب أن يصدره المسؤولون عن إنفاذ القانون. ووصف الإعتداء بأنه “خطير للغاية” ويتطلب إجراءات “نشطة جداً”.
ومساء الثلاثاء تحدث الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف عن الإعتداء في غروزني. لم يحدد موقفاً من الحدث، بل قال “دعونا نتحرى”. وأضاف بأنه أعطى تعليماته للهيئات المعنية ل”بذل كل الجهود” لتحديد هويات المهاجمين. وأكد أن الأجهزة باشرت العمل فوراً بعد إنتشار النبأ عما جرى.
هيئة تحرير Novayaنقلت صورة ما حدث مع مراسلتها عن تلغرام قنال “فريق ضد التعذيب”. وقالت بأن رئيس التحرير دمتري موراتوف إتصل بمفوضة حقوق الإنسان في روسيا تاتيانا ماسكالكوفا. ووصفت الصحيفة ردة فعل المسؤولة الإتحادية بأنها كانت فورية، وإتصلت بممثل الهيئة في الشيشان منصور سالتايف الذي وصف الإعتداء بأنه “تخريب وإستفزاز ضد الجمهورية”، وهو ما ردده بحرفيته تقريباً كل المسؤولين الروس ومواقع إعلام الكرملين.
هيئة التحرير قالت بأنها تحرص في الوقت الحالي على عدم طرح أي روايات وإتهامات، باستثناء التأكيد بأن مهاجمي الصحافية والمحامي هم “حثالة مطلقة”. ورأت بأن ما حدث يبرز أكثر فأكثر فقدان الدولة للسيطرة على الهياكل شبه العسكرية وهيئات إنفاذ القانون وأجهزة المخابرات.
رفضت مالاشينا تلقي العلاج في المركز الطبي الذي نقلت إليه في غروزني، كما رفضت التحدث إلى رجال الأمن الشيشان. ونقلت إثر ذلك إلى مدينة بيسلان في أسيتيا الشمالية، ومن ثم إلى المستشفى في موسكو على متن طائرة خاصة قيل أنها تابعة لوزارة الطوارئ الروسية.
تواصلت “المدن” مع يلينا مالاشينا في المستشفى بموسكو عبر مراسل Novaya الخاص في الشرق الأوسط وديع الحايك. وقررت مالاشينا مع رئيس تحرير الصحيفة أن تنهي بردها على سؤال “المدن” أحاديثها إلى الصحافة ريثما يتحسن وضعها الصحي. كما أرسلت مع ردها 11 صورة إلتقطتها مصورة الصحيفة آنا أرتييفا، نشرت ثلاث منها في الصحافة الروسية والعالمية، والبقية تظهر للمرة الأولى. تظهر الصور آثار الضرب الوحشي على ظهرها، كما تظهر يدها الملفوفة بالجبس ورأسها الحليق بعد تدخل المستشفى لإصلاح ما ارتكبه المجرمون بشعرها.
توجهت “المدن”إلى مالاشينا بسؤالها عما دفعها إلى المخاطرة بحياتها مجدداً، بعد تعرضها للضرب والإهانة أكثر من مرة خلال عملها الصحافي الطويل حول الشيشان. وألا تخشى أن تكون الضحية التالية بعد صحافيي Novaya الستة الذي قتلوا منذ تأسيس الصحيفة؟
قالت مالاشينا أنها بالفعل تعرضت للضرب في الشيشان العام 2020، حين قصدت مع المحامية مارينا دوبروفينا غروزني لحضور محاكمة. وتعتقد أنها لو كانت هي او مارينا قد امتنعتا بعد ذلك عن الذهاب إلى الشيشان للقيام بعملهما، لكان من الصعب بعد ذلك “أن نعتبر أنفسنا محترفتين في مهنتنا”. ورأت أن الصحافة، كما المحاماة، تنطوي على “مخاطر كبيرة”، ويجب أن يضع ذلك في الحسبان الشخص الذي يقرر أن يصبح صحافياً.
وأضافت “عموماً، يربكني دائماً السؤال لماذا أعمل صحافية في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان في الشيشان”. وتتساءل لماذا لا يطرح أحد السؤال عينه على رجال الإطفاء أو رجال الإنقاذ الذين تحدق بهم مخاطر جمة أيضاً. وتجيب هي نفسها بالقول ربما لأن الجميع يدرك أن عمل هؤلاء مهم للمجتمع. لكن صحافة حقوق الإنسان ليست أقل أهمية للمجتمع. فلو لم يكن الصحافيون موجودين، من كان سيتحدث عن هموم الإنسان العادي، ومن كان سيحميه من القسوة والشطط في خرق القوانين، وخاصة حين يكون القانون مغيباً.
وتنتهي مالاشينا بإيجاز رأيها بمهنة الصحافة. فترى أن الصحافة هي الوظيفة الأهم للمجتمع البشري. بفضلها يتعرف المجتمع والدولة على حقيقتهم هم أنفسهم. وفي جميع الأوقات سيوجد دائماً أشخاص يقومون بهذا العمل، على الرغم من المخاطر الملازمة له.
الخارجية الفرنسية نشرت على موقعها الرسمي إدانة فرنسا ب”أشد العبارات الجريمة الوحشية” ضد الصحافية يلينا مالاشينا والمحامي ألكسندر نيموف اللذين كانا في الشيشان بمهمة تتعلق بمحاكمة زاريما موساييفا، زوجة زعيم المعارضة الشيشانية. وذكرت الخارجية بأن مالاشينا منحت العام 2017 الجائزة الفرنسية الألمانية “من أجل حقوق الإنسان وسيادة القانون”. وقالت بأن مالاشينا عملت دائماً على توثيق التطاول على الحقوق الأساسية في الشيشان، على الرغم من التهديدات المتواصلة التي كانت تتلقاها.
هيئة تحرير صحيفة MK الروسية المخضرمة نشرت نصاً بشأن الإعتداء بعنوان “الهجوم على الصحافية مالاشينا: هل الدولة قادرة على حماية القانون”، وأتبعته بآخر ثانوي “لا ذكر لتوقيفات”. قالت الصحيفة بأن كل ما فعلوه مع الصحافية والمحامي تنطبق عليه، على الأقل، خمس مواد من قانون العقوبات الروسي، بما في ذلك “التعذيب” و”عرقلة النشاط الصحافي”. وسألت الصحيفة “هل يطبق قانون العقوبات الروسي في الشيشان كما في سائر أنحاء روسيا، أم لا؟”
رأت الصحيفة غير المعروفة بمعارضتها أن “هذه القصة” هي إمتحان قدرة المجتمع والدولة على حماية القانون، “أي الذات”. وأضافت بأن القانون بحد ذاته هو أساس أي دولة، إذا أُلغي ينهار كل شيئ، ويحل الدمار والفوضى مكان الحضارة. قد يكون القانون قاسياً (ولهذا هو القانون)، لكنه يجب أن يطبق دائماً ويشمل الجميع.
قالت الصحيفة بأن يلينا مالاشينا وصلت غروزني في 4 الجاري لتغطية صدور الحكم بحق زوجة قاضي سابق في المحكمة العليا بالشيشان. اختطفت الأجهزة الشيشانية الزوجة من مدينة روسية ولفقت ضدها تهمة الإعتداء على رجل أمن. وتقول الصحيفة بأن إختطاف الزوجة ومحاكمتها (صدر الحكم بسجنها 5.5 سنوات) كان ثأراً على نشاط إبنها المعارض الذي غادر روسيا. وبرز حينئذ السؤال: “هل تحاكم الأم مكان إبنها؟”. لكن المجتمع “ابتلع” هذا التحدي، وأدى ذلك إلى المرحلة التالية “الطبيعية كلياً”.
خلال الحديث مع مراسل صحيفة Novaya الخاص في الشرق الأوسط وديع الحايك، حيث كان يروي من المستشفى في موسكو تفاصيل الإعتداء الوحشي على زميلته وجو الترهيب الذي تعيشه بقايا الصحافة المستقلة في روسيا بعد الحرب على أوكرانيا، سألته ما إن كان يعتقد بأن روسيا تعود إلى الستالينية. قال وديع عن أي ستالينية تتحدث؟ الشيشان ليست المنطقة الوحيدة التي يغيب فيها القانون وتسودها شريعة القبيلة والعشيرة، روسيا بأسرها تفتقد حكم القانون وتدافع عن “عالم روسي” وهمي، وتتمسك بكل ما هو تقليدي مناهض لعالم الحداثة بوجه “تهتك الغرب وفجوره”.
“المدن”