إن كانت تعويذة عقود حسني مبارك الثلاثة، ومرتكز فخرها، هي دعاية الاستقرار، فإن الشعار الأشمل والأوضح لنظام الحكم الحالي في مصر هو الجِدّة. من قناة السويس الجديدة إلى العاصمة الإدارية الجديدة، تتكرر صفة الجِدّة، لتلتصق بالدولة نفسها، ونظام حكمها، فيظهر شعار “الجمهورية الجديدة” في شاشات المحطات التلفزيونية المصرية بشكل شبه دائم ويُستعاد في كل مناسبة سياسية.
للوهلة الأولى، يظهر الشعاران، أي الاستقرار والجِدّة، متناقضان، وفي نظرة ثانية قد يتبين أنهما من التنويعات على الشيء نفسه. الأول فيه طمأنينة بقاء الحال على ما هو عليه، وفي الثاني مناورة تدّعي التجديد بهدف نهائي هو تأبيد الأمر الواقع. العلاقة بين الإثنين، على الأرجح، ليست تعارضاً مطلقاً، ولا تطابقاً صرفاً، بل هي مزيج غير مستوٍ ومتراوح.
ترتبت دعاية الاستقرار على الطريقة التي انتقلت بها السلطة إلى مبارك، أي اغتيال سلفه وتمرد عسكري -مع محدوديته- ظل خطيراً، وذلك على خلفية اضطرابات طائفية وحملة اعتقالات واسعة. جعل هذا من تصور التغيير، مقامرة محفوفة بمخاطرة قصوى، لا تحتمل الجماهير تبعاتها. كانت صيغة المقايضة السياسية أقرب إلى منطق الحد الأدنى، حيث لا وعود، أو أن يكون الوعد الوحيد هو أن يشبه المستقبل الحاضر تماماً. وهو وعد، مع تدنّي سقفه، تعثّر نظام مبارك في الوفاء به، أو بالأحرى لم يكن صادقاً فيه من البداية.
أما السياق الذي تأسس عليه النظام الحالي، فجاء على إثر ثورة أطاحت مبارك نفسه الذي لم يشفع له الاستقرار أو الركود الطويل. وجاء النظام الراهن إثر حراك جماهيري هائل في الثلاثين من يونيو، ولا ينفي جماهيريته أن ثمة دليلاً واضحاً على تدخل الأجهزة في هندسته. بهذا يعتبر النظام نفسه جزءاً من ثورة، أو نتاج ثورة، ليست ثورة يناير بالطبع، وهي بالفعل الثورة المضادة لها. وفي تلك الثورية يتلمس النظام جذرية ما، أو يدّعيها على الأقل، وتستلزم الجذرية اقتلاع القديم واستبداله بشيء آخر. لكن هل هذا ما تعنيه الجِدّة؟
لفهم تعبير ما، يمكن مقارنته بأقرب المعاني إليه، وبتلك الطريقة تتضح حدوده أكثر، في شبكة من علاقات التباعد أو القرب من المرادفات الأخرى. بين الجديد والحديث، علاقة قرابة في المعنى، إلا أن الحديث هو ما جرى العرف على اعتباره تدليلاً على حقبة زمنية بعينها، محددة تاريخية، وترتبط بأيديولوجيا لها وجوهها السياسية وغيرالسياسية. وأهم ما يميز الحداثة أنها تعبير عن قطيعة مع ما سبقها، بما يعني أن ما تقدّمه هو زمان آخر. في المقابل، فإن الجديد يعكس معنى أبسط، أنه مقارنة بشيء أقدَم منه، هكذا تكون الجِدّة علاقة بالوقت لا حكم قيمة، أي أنها صفة الشيء المتأخر زمناً لا أكثر.
بإيجاز، يمكننا القول إن في القلب من الحداثة، إيمان بالتقدم على مقياس الزمن، والجديد لا يعتبر الزمن سوى بمعناه الأكثر مباشرة، أي الترتيب على مدرجه، ما جاء سابقاً وما جاء لاحقاً. لا يقصد النظام تلك المعاني بالضرورة، حين يلصق صفة الجديد بنفسه، لكنها تبدو متحققة ولو عفوياً حين يستخدمها. فقناة السويس الجديدة والعاصمة الجديدة وغيرهما، لا تدعي قطيعة مع الماضي بالضرورة، بل بالعكس، هي سعي للانتساب إليه، والاستيلاء على حمولته الرمزية مضافة إليها لمعة الجِدّة.
لدى صنف من السلطويات هوس بصفة الجديد، أو بادعائها. ولا تكون الجِدّة وسيلة السلطة للإبقاء على الوضع القائم مقترنة بوهم التغيير، بل الأفدح أنها تمنحها رخصة للتدمير والهدم والاقتلاع والتخريب، بحجة التخلص من القديم وإحلال الجديد.
“المدن”