لا بد من الاشارة أولاً الى ان هذا الكتاب هو في معظمه حوارات اجراها مركز دراسات المشرق العربي مع الدكتور ابراهيم الجعفري، رئيس الحكومة العراقية السابق، وتناولت فترة زمنية امتدت منذ توليه رئاسة مجلس الحكم في 13\7\2003، الذي شكله الحاكم المدني الاميركي للعراق "بريمر" بعد انتهاء العمليات العسكرية الاميركية في هذا البلد، وحتى اجراء الانتخابات الاشتراعية في كانون الاول 2005 وتقديم استقالته من رئاسة الحكومة.
من المحاور المهمة التي تدور حولها هذه الحوارات، محور الديمقراطية التي تشغل الفصل الاول من اصل ثمانية فصول يتألف منها الكتاب، اذ يرى الجعفري انها من الركائز الاساسية التي تقوم عليها الانظمة السياسية، حيث "تلتقي فيها الانظمة الاجتماعية المختلفة الاخرى دينية كانت او علمانية…" فهي ليست مقاسا إقليميا او قوميا او امميا، بل "هي مقاس انساني وعالمي…" ويصبح فيها القرب السياسي الديمقراطي متقدما على القرب الجغرافي، فقد تتباعد دول متقاربة جغرافيا وقد تتقارب ديمقراطيا وهي متباعدة جغرافياً"، "والديمقراطية كل لا يتجزأ" من الناحية الانسانية،"فلا يمكن تصور ديمقراطية سياسية دون ديمقراطية اقتصادية وديمقراطية امنية"؛ اما بشأن الديمقراطية في البلدان العربية فيرى الجعفري انها "جزء من السياسة الخارجية وليست رغبة ملحة نابعة من الداخل…".
وباعتباره منتميا الى حزب إسلامي حزب الدعوة الاسلامية منذ ستينات القرن الماضي وشغل فيه مناصب قيادية، فإنه لا يستغرب تصاعد المطالبة بالديمقراطية في الاوساط الاسلامية "سواء لأسباب الفعل الذي يدفع بالتمسك بها مما يرتبط بالثقافة الاسلامية"، التي تزخر بمفاهيم العدالة والحرية والاعتراف بالآخر ونكريم الانسان، او "لأسباب ردود الفعل التي افرزتها الأنظمة الديكتاتورية والتي تبعد القوى السياسية المختلفة والمعبرة عن آراء الشعب مما يكرس الاستبداد والفردية…". بعد هذا الشرح النظري لمفهوم الديمقراطية، ينتقل الى النواحي التطبيقية فيقول ان الحزب الذي ينتمي اليه مارس الديمقراطية من المرحلة التأسيسية عام 1957 حتى اليوم؛ اما هو نفسه فقد مارس هذا المفهوم لدى توليه المسؤولية الحكومية الرسمية في العراق. الا ان عقبات عديدة اعترضته منها المحاصصة حيث ينتقد المفارقة التي نتجت عنها و"لا يقبلها الشعب ولا يتعايش معها"، اذ ان الأكفأ لا يأتي بالضرورة الى ادارة الدولة، وإن الأكبر في الحكومة قد يكون اصغر حجما في المجتمع والعكس بالعكس، وعندما يسمع ان البعض يقول بأن المحاصصة تناسب النسيج العراقي بمكوناته المتنوعة يقول هو انها عقبة كأداء امام تطور النظام السياسي، وعندما قبل على مضض تشكيل حكومته على اساس محاصصة بشروط حذّر قائلا: "لا يجوز تثبيت المحاصصة كحالة دائمة قد تتسلل لتصبح جزءا من مفاهيم دستورية". والعقبة الثانية التي اعترضته هي الارهاب. ان قارئ هذه الحوارات يشعر ان الجعفري مسكون بهاجس محاربة الارهاب، ولا غرابة هنا حيث اصبح الارهاب، بأعماله الاجرامية والتدميرية لا يستثني احدا من فئات المجتمع العراقي قاطبة، الشغل الشاغل لكل من يتولى المسؤولية العامة، وفي ما خص تطبيق الديمقراطية فالجعفري يقول اننا كلما كنا نتقدم خطوة بالتطبيق كان الارهابيون يزدادون شراسة في اعمالهم التي لا تراعي لا المحرمات ولا الاعراف ولا التقاليد، حتى انه يرى ان الحرب التي تٌشن على الارهاب هي حرب عالمية بامتياز، فالحرب عام 1914 وكذلك عام 1939 لم تكونا عالميتين لأنهما كانتا محدودتين جغرافيا وزمنيا في حين ان الحرب على الارهاب ليست محصورة لا بالجغرافيا ولا بالتاريخ…
أما المحور الرئيسي الثاني الذي برز من خلال الحوارات فهو البراغماتية التي جسدها تعامل حزب الدعوة الاسلامية والسيد الجعفري مع الاحداث، قبل الاحتلال وخلاله. فعلى رغم ان هذا الحزب، وقبل الغزو الاميركي للعراق، رفض، عندما علم باستراتيجية الادارة الاميركية بالحرب على العراق واحتلاله، المشاركة في الاجتماعات التي كانت تعقدها المعارضة العراقية في الخارج برعاية واشنطن في كل من لندن وانقرة قبل سقوط النظام، وفي الناصرية بعد سقوطه، ومع ذلك كان حزب الدعوة من ابرز التيارات السياسية المشاركة في الحكم وتحت الاحتلال. والسيد الجعفري الذي اختلف مع "برايمر" الاميركي حول تعيين مجلس الحكم وعدم احتضان التيار السني بما يمثله من اهمية للعراق، وعدم النظر الى التيار الصدري بشكل موضوعي كظاهرة شعبية انبثقت من رحم المعاناة، ومع ان هذه المسائل جوهرية، فإن الجعفري قبل بتولي رئاسة اول مجلس للحكم عبر التعيين وليس الانتخاب كما كان يطالب، واهملت الادارة الاميركية المسائل الاخرى. يقول الجعفري بهذ الخصوص: "بعد ان اصبحت الحرب تاريخا والاحتلال واقعا فما علينا الا التفاعل مع ما يجري على الارض من احداث لتصحيح الأداء للتخلص من الاحتلال وتوسيع رقعة الاستقلال الوطني والتأثير ايجابا في القرارت الدولية".
من هذين المحورين الرئيسيين تنبثق عناوين اخرى، تبرزها هذه الحوارات، كإنجازات الحكومة التي ترأسها الجعفري في شتى الميادين السياسية والاقتصادية والامنية والاجتماعية، ومنها ايضا كيفية بناء الدولة العراقية ودور الشعب العراقي في هذا المجال، حيث يراهن الجعفري كثيرا على هذا الدور، واخيرا المصاعب التي تعترض الحكم الوطني في العراق.
[ الكتاب: إبراهيم الجعفري: تجربة حكم
[ الناشر: مركز دراسات المشرق العربي، بيروت 2008
"المستقبل"