يُشير استطلاع رأي لمعهد دراسات الرأي والتسويق الفرنسي (IFOP) هذا العام إلى أن 55 بالمئة من الأميركيين و35 بالمئة من الفرنسيين يؤمنون، على الأقل، بنظرية مؤامرة واحدة، وأن هذا التوجّه يحضُر خاصةً بين الأصغر عمراً والأكثر مُحافَظَة. لنطّلع على بعض الأمثلة: يعتقد 42 بالمئة من الأميركيين و33 بالمئة من الفرنسيين أن حكومة الولايات المتحدة كانت على علم مسبق بحصول هجمات 11 أيلول 2001، ومع ذلك لم تفعل شيئاً لتفاديها؛ كما يعتقد 41 بالمئة و23 بالمئة بالترتيب أن مركبة أبولو لم تهبط في الحقيقة على سطح القمر عام 1969؛ و41 بالمئة و31 بالمئة يعتقدون أن بايدن هو من افتعل اجتياح أوكرانيا للتغطية على صفقات ابنه؛ و27 بالمئة و20 بالمئة يعتقدون أن مجزرة بوتشا كانت مسرحية دبّرها الأوكرانيّون؛ و40 بالمئة من الأميركيين و26 بالمئة من الفرنسيين يشكّكون بنزاهة فوز بايدن في الانتخابات الأميركية، ويعتقدون أن اقتحام الكابيتول كان مدبّراً لتشويه صورة مناصري دونالد ترمب؛ و42 بالمئة و29 بالمئة يعرّفون عن أنفسهم كمُشككين بالتغيّر المناخي؛ و18 بالمئة و12 بالمئة (ستة ملايين فرنسي!) يعتقدون أن الأرض مسطّحة. وفي استطلاع رأي حديث آخر قامت به جامعة ييل الأميركية في 30 دولة، تَظهر الولايات المتحدة على رأس قائمة الإنكار المناخي (14 بالمئة)، وهذه نسبة تصعد إلى 40 بالمئة لو شملنا أولئك الذين لا يُنكرون التغيّر المناخي ولكنهم ينفون دور البشر في التسبب به. في إسبانيا أكبر نسبة من المعتقدين بالدور الرئيسي للبشر في التغيّر المناخي (64 بالمئة)، فيما نجد النقيض في أندونيسيا (16 بالمئة). أما إنكار الهولوكوست، المُلاحَق قانونياً في 17 دولة، والذي يشكّل القالب النموذجي لكل النزعات الإنكارية الأخرى، فإنه يحضر بشكل متزايد في شبكات التواصل: نصف محتوى تلغرام، حسب بحث لليونسكو، يُنكر الهولوكوست أو يقدم رواية مغلوطة حول سياسات الإبادة النازية؛ أما في حال المنصّات «المُراقبَة»، فإن هذه النسبة تنخفض إلى 19 بالمئة على تويتر، و17 بالمئة على تيكتوك، و8 بالمئة على فيسبوك. وحريٌ أن نضيف قلق منظمة الصحة العالمية حول ازدياد النزعات الإنكارية الصحية إلى هذه البيانات، ونقصد بالذات أولئك الذين يعتبرون أن كوفيد 19 لم يوجد أصلاً، أو أنه أُنتج في المختبرات، أو اخترعته كبرى الشركات الدوائية بقصد إنتاج لقاحات لإيقاع الأذى بسكان الأرض أو السيطرة عليهم.
ليست هذه الظاهرة بالجديدة، لكن مفاعيلها الحالية غير مسبوقة حقاً. ففي سياقٍ من النمط الذي سمّاه آدم تووز «الأزمة المتعددة»، تُغذيّ النزعات الإنكارية، الصحية والمناخية والجيوسياسية، نمو الأحزاب والحركات ما-بعد الفاشية واليمينو-شعبوية في العالم أجمع. وهذا، بحد ذاته، سبب كافٍ لأن نأخذ مناصري هذه النزعات على محمل الجد، فهم كُثُر، وغالباً يجتهدون تعليمياً ومعرفياً أكثر من أولئك المكتفين بالسخرية منهم. معلوماتهم مغلوطة، صحيح، ولكن معلوماتهم كثيفة في آنٍ معاً؛ سيئو التفكير، ولكنهم لا يكفّون عن التفكير؛ هم معادون للمنطق العام، ولكنهم يسعون لأجل مشروعٍ مشترك بينهم. تُصرّ الفيلسوفة الإيطالية دوناتيلا دي تشيزاري، المتخصصة بالهولوكوست، بحقٍ على أن النَزعات الإنكارية ليست نتيجة الجهل، فالجاهل يجهل، لا يُنكر. يُعلّمنا علم النفس أن الإنكار قد يكون ردَّ فعل دفاعي في مواجهة التراوما، ونعلم أن الإنكار هو أول مراحل الحزن: ننكر وفاة شخص عزيز علينا للوهلة الأولى. لكن الإنكاريات أمر آخر، إذ يعمل هذا النوع من النزعات على تحويل الإنكار إلى توكيد، أي إلى شكلٍ فاعل وتأكيدي من التدخُّل في الشأن العام. ولا شك أن الإنكار يستفيد من الجهل، فعلى سبيل المثال، قد يصير أولئك الـ 65 بالمئة من الشباب الأميركيين الذين لا يعلمون شيئاً عن الهولوكوست نازيين جدداً، لكنهم الآن ليسوا مشغولين بذلك، وما زال لديهم متسع من الوقت للاطلاع على التاريخ. وقد يحصل أن تنمو نزعة إنكارية في سياق «عزاء» جماعي، كما شهدنا في حالة وباء كورونا، ولكن ليس من الحتمي أن يقود الرعب أمام انكشاف هشاشة النفس حكماً نحو الاعتقاد بتسطّح الأرض أو معاداة اللقاحات، إذ يمكن للعزاءات الجمعية أن تُشكّل دافعاً نحو المزيد من الضميرية الإنسانية، ونحو إنتاج أشكال بديلة من التضامن، كما تُذكّرنا عالمة الاجتماع الأميركية ريبيكا سولنيت في كُتبها.
الإنكارية هي نظام معرفة وتفكير لا يتوقف عند تدمير التوافقات الاجتماعية فحسب، بل يسعى بالتوازي مع ذلك لبناء أنماط حياة وتواصل ذى مرجعيّة ذاتية ويستحيل تفكيكها فقط عن طريق إظهار «حقيقة موضوعية» ما بمواجهتها. وكل نزعة إنكارية تُلازمها نظرية مؤامرة، إذ لا يمكن أن تكون من أنصار نظرية الأرض المسطحة دون أن تعمل على فضح تآمر وكالة ناسا؛ ولا أن تكون مناهضاً للقاحات دون إدانة مؤامرات سوروس وبيل غيتس وشركة بايرن. وكذلك، لا يمكن إنكار غرف الغاز النازية دون إدانة مؤامرات الرأسمالية اليهودية، ولا يمكن إنكار الجرائم الستالينية دون تقديم وكالة الاستخبارات الأميركية على أنها ماكينةُ بروباغندا معادية للشيوعية وكلّيةُ الحضور والقدرة. تالياً، نرى أن كل نزعة إنكارية تستدعي بناءها المؤامراتي، وكل بناء مؤامراتي يحوي بدوره لبنة أو لبنتين من الحقيقة. صحيح أن شركات الأدوية قد كسبت كميات فظيعة من المال بفضل اللقاحات؛ وصحيح أيضاً أن إسرائيل قد استغلت ضحايا الهولوكست أيّما استغلال لتسويغ مشروعها الاستيطاني في فلسطين؛ كما صحيح أن السي آي أي قد استخدمت كل الوسائل الممكنة، من صحفيين وأفلام، وصولاً للانقلابات العسكرية، لمحاربة الشيوعية في إطار الحرب الباردة.
حتى أنصار تسطّح الأرض بإمكانهم، محقين، أن يدّعوا أن الدليل الوحيد بحوزتنا عن كرويتها هو صور صناعية المنشأ ويمكن تزويرها. يمكننا، إذاً، أن نقول إن البناءات المنطقية التي يُنكِرُ الإنكاريون وفقها العلوم أو التاريخ هي أكثر صلابة من العلوم أو التاريخ نفسهما، إذ يقوم كل من العلوم والتاريخ على المراجعة المستمرة لخلاصاتهما وتجديد المصادر والحصول على بيانات وأدلة جديدة. وفي وقتٍ يصعب فيه التمييز بين الحقيقة والزيف، بإمكاننا تقديم قرينة قد تُساعدنا على التمييز بينهما: الحقيقة ستحوي دوماً خيطاً فالتاً أو زاوية معتمة أو خاصرةً رخوة، في حين أن كل شيء في النظريات التآمرية تام، وواضح، وجلي، ونهائي.
المسألة إذاً أكثر خطوراً بالفعل، إذ تتعلّق بأسس معارفنا واعتقاداتنا. ماذا يُنكر الإنكاري؟ الجواب السهل والمريح والمُرضي للذات هو:«الإنكاريون يُنكرون الواقع» أو «الإنكاريون يُنكرون الوقائع». لكن هل يمكننا فعلاً التأكيد على قدرتنا دوماً على تمييز «الواقع»؟ ليس ما نسمّيه «وقائع» في الحقيقة إلا تبلورات معقدة، ليس الجسد فيها إلا شاهداً طَرَفياً، وأحياناً ظرفي قليل التدخل، وبالكاد يمكننا الوثوق به. يندر أن تكون معارفنا قائمة على «الخبرات»، بما في ذلك أكثرنا إمبريقية. يقول الكاتب الإنكليزي العظيم غلبرت كيث تشيسترتون إن معرفة الطفل بأن النحل يلسع تسبق تعرّضه لأي هجمة نحلة بفضل أن أمه قد أخبرته بذلك. يؤمن الأطفال بذويهم، ولذلك فإنهم كثيراً ما يكررون أغلاطهم نفسها. لكن إن كان هذا يحصل على مستوى الجسد ذاته، فماذا يمكن أن يحصل على مستويات أخرى لا يمكن إحراز المعرفة فيها إلا عبر وسطاء، ودون إمكانية الخبرة المباشرة؟ هذه هي بالذات حال العلوم والتاريخ: لماذا نعلم أن نظرية دارون التطوّرية متينة الأساس العلمي؟ لأنهم علّمونا ذلك في المدرسة. لكن في 1850، على سبيل المثال، كان الأطفال الإنكليز «يعلمون» أن العالم قد خلقه الله في سبعة أيام من شهر أكتوبر قبل 4004 عاماً، وأن آخر ما خُلقَ كان البشر؛ الرجل أولاً، ثم المرأة. وقد كانوا يعلمون ذلك للسبب نفسه: لأن أمهاتم قد أخبرتهم ذلك، والمدرسة علّمتهم إياه. ولماذا نعلم أن القسطنطينية وقعت بيد الأتراك عام 1453، أو أن لينين قاد الثورة في روسيا عام 1917، أو أن هتلر قتل ما بين خمسة وستة ملايين يهودي (بالإضافة لكثيرٍ من الروما والسلاف والشيوعيين ومثليي الجنس) بين 1933 و1945؟ لأننا تعلَّمنا ذلك في المدرسة. لا أحد منا طاعنٌ في السن كفاية لكي يكون قد عاش كل هذه الأحداث، ولا أحد منا يعرف شاهداً مباشراً عليها بشكل شخصي، وبالتالي فإن كل معرفتنا عنها قد وصلتنا بطريقة غير مباشرة، مرتبطة بمصادر نعتبرها موثوقة ومُشرعنة.
المسألة، إذاً، مرتبطة بالمصادر. كل ما نعرفه إنما نتعلّمه من أحدٍ ما: أمٌ أو كتابٌ أو مُعلّم. وفي حين أن أمّنا وجسدنا هي مصادر ذاتيّة، فإن العلوم والتاريخ تشكّل مصادرَ موضوعية. لا يعني ذلك أن محتواها هو الحقيقة في كل لحظة وفي كل حقبة، فقبل اكتشاف البكتريا كان العلم قد اعتبر من الثابت أن الأمراض تنتقل عن طريق «الوبال»؛ كما لم يتمكن علماء الإناسة وخبراء الديمغرافيا من تقديم تقييم إجمالي للأذى الذي تَسبَّبَ به الاجتياح الإسباني لأميركا إلا منذ سنواتٍ قليلة. كل محتوىً في العلوم، أكانت هذه «ليّنة» أم «صلبة»، هو عرضة للسجال ضمن جماعة تَبادُل وتعاون ونقاش وتوثيق ودحض، تُشكّل ضماناً للتأسيس الراهن للمعارف، وأيضاً للتقدُّم المعرفي للإنسانية. أجسادٌ ذاتية (ولدت من رحم أمهات) هي التي تصنع العلوم، وأحياناً تخطئ هذه الأجساد، أو تُخدَع، أو تَخدع بشكل متعمد؛ لكن مجموع هذه الأجساد يشكّل «جماعة موضوعية» تلجمُ آلياتُ التصحيح الجمعية فيها جموحَ الذاتيات وهلوساتها. وينتقل نِجاز هذه «الموضوعية» إلى المجتمع عبر المدرسة، وهذا يشرح ضرورة الدفاع عن وجود تعليمٍ عُمومي وعلماني وكوني ومجّاني. بذهابه إلى المدرسة، ينفصل الطفل عن ذويه وينتقل من عالم ذاتي (حيث نتعلم أحياناً أشياء حقيقية من قبيل أن النحل يلسع؛ وأيضاً قد نتعلم في أحيان أخرى أشياء هزلية مثل رفعة شأن الرجل عن النساء) إلى عالم الموضوعية (حيث نتعلم ما هي النحلة ولماذا نحتاجها). وهذه هي المشروعية التي تتيح لنا أن نقول أننا «نعلم» شيئاً حين نكون قد تعلّمناه من معلم أو مؤرخ أو موظف في منظمة الصحة العالمية، وليس حين يقوله موقع انترنت مناهض للقاحات. وحين تُكسَر هذه المشروعية وتصبح غير موثوقة فإن المنتصر ليس الجهل، بل الفاشية.
إذاً، بوسعنا قول إن المعرفة شأنٌ سياسي دوماً، مرتبطة بالـ«مدينة» ومؤسساتها، ومتعلّقة بنوع الجماعة التي ننقلها ونُعيد إنتاجها عبر البرلمانات والمدارس. ولذلك فإن دوناتيلا دي تشيزاري، التي سبقت الإحالة لها أعلاه، على حق حين تُصر على أن النَزعات الإنكارية ونظريات المؤامرة الملتصقة بها «ليست نتاج الجهل أو التفكير السحري أو الخرافة»، بل أنها تُحيل إلى مسائل «سياسية بامتياز». ينضوي الإنكاريون ضمن مشروعٍ سياسي ليس هدفه إنكار «الواقع» أو نفي «الوقائع» أو «الحقائق العلمية» فحسب، بل يبغي محاربة الجماعات الموضوعية التي تعمل على مصادقة معارفنا واعتقاداتنا. ينبع الإنكاريون وأنصار نظريات المؤامرة مباشرةً من تفسّخ هذه الجماعات الموضوعية، وهذا التفسّخ يدفع نحو «تسطّح الأرض» ومناهضة اللقاحات بآلاف من الأشخاص العاديين المرعوبين، أو الذين يشعرون بانعدام الأمان، أو حتى آلاف الـ«المتمردين ضد النظام القائم» الذين قد تكون لديهم أسباب محقة للغضب. تالياً، ليس موضوعنا هو تصحيح الجهل بالمعرفة، أو تصويب المعرفة المخطئة بالمعلومات الصحيحة، بل ينبغي أن تكون استجابتنا سياسية أيضاً. نثق بمَن؟ مَن نصدّق؟ وأخشى أن استطلاعات الرأي حول الإنكاريّة والإنكاريين يجب أن توضع حكماً في موازاة مع استطلاعات مشابهة حول الديمقراطية. وبهذا الصدد سأشير الآن لبعض البيانات: حسب تقرير لمؤسسة V-Dem، فإن التقدم الديمقراطي المُنجَز خلال العقود الأخيرة «قد تلاشى»: 78 بالمئة من سكان الكوكب، أي حوالي 6 مليارات، يعيشون اليوم تحت حكم أنظمة أوتوقراطية، وهي نسبة تعود بنا إلى عام 1986، أي قبل نهاية الحرب الباردة. ولأول مرة منذ عقدين تعيش نسبة أكبر من البشر (28 بالمئة) تحت حكم أنظمة «أوتوقراطية مغلقة» من تلك المحكومة بـ«ديمقراطيات حُرّة» (13 بالمئة فقط). ويشير التقرير نفسه أنه في عام 2022 كان هناك 42 دولة سائرة نحو الأوتوقراطية، من بينها الولايات المتحدة والبرازيل، وذلك رغم الانتصارات المضنية لبايدن ولولا دا سيلفا على ترمب وبولسونارو. يترك مرور اليمين على الحكم دوماً تحجّرات مؤسسية يصعب التغلّب عليها: حريات أكاديمية وثقافية أقل، وحرية تعبير أقل، ومصداقية نزاهة انتخابية أدنى، وحقوق مدنية أكثر تضعضعاً. هذا هو الطابع الغالب على العالم الآن نتيجة ارتداد فيروسي تساهم تبعية الديمقراطيات التجارية لأنظمة أوتوقراطية (لنفكر بالنفوذ الاقتصادي لدول مثل الصين وروسيا وقطر) في تعميق ضعف المقاومات الليبرالية له.
ختاماً، لا يمكن فصل النضال من أجل الديمقراطية عن النضال من أجل العلم والبحث التاريخي. وكلّما قلّت الديمقراطية زادت الإنكارية ونظريات المؤامرة. وجزءٌ من اليسار، ذلك الذي يُنكر جرائم ستالين وبوتين وبشار الأسد، يتفق في ذلك مع اليمين المتطرف: لا يؤمنون بموضوعية المَعارف الجمعية (ولا بالمعاناة المشتركة)، ولا يؤمنون بالجهود الجماعية -المنقوصة حتماً- في سبيل الحق والديمقراطية.
هذا المقال جزءٌ من ملف أعدته الجمهورية.نت في الذكرى العاشرة لمجزرة الكيماوي الكبرى في غوطة دمشق تحت عنوان: عقد على مجزرة الغوطة
“الجمهورية”