يفغيني بريغوجين كان مشروع قتيل منذ بدء التهجم علناً على صديق الرئيس فلاديمير بوتين وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان غيراسيموف.
وهو أصلاً يستحق عقاباً من نوع آخر على تشويه اسم الموسيقي الكبير “فاغنر” بإطلاقه على المجموعة التي يملكها من مجرمين مرتزقة يقومون بنوع من “حروب الظل” التي تخدم روسيا من دون أن تتورط رسمياً.
والسؤال حين ركب رأسه وقاد مجموعته نحو موسكو في تمرد بدا سهلاً هو متى يغادر هذا العالم وكيف؟ فلا أحد يتحدى “القيصر” وينجو، والقيصر خائف أساساً، وأخطر الحكام هو الخائف الذي يعالج خوفه بدور المخيف.
هكذا كان دور الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الذي كان رأسماله الخوف، معتبراً أن “أهم قوة هي قوة الخوف”، وهكذا كان دور ستالين وهتلر، وهذا ما يفعله بوتين.
القاسم المشترك بين موسكو القيصرية وموسكو السوفياتية وموسكو البوتينية هو الخوف من التطويق والغزو الغربي في الصراع الجيوسياسي: نابليون غزا روسيا أيام القياصرة وكاد يربح لولا “الجنرال ثلج”. هتلر غزا الاتحاد السوفياتي مروراً بأوكرانيا المسطحة التي كانت جزءاً منه، فهزمه ستالين وصمود ستالينغراد ولينينغراد والجنرال جوكوف بمساعدة الجنرال ثلج. والرد كان دائماً بعد النصر توسيع الحدود.
القياصرة استولوا على المزيد من أرض الجيران على خطى كاترين العظمى التي كانت تقول “لا أملك أية طريقة للدفاع عن حدودي سوى توسيعها”، ستالين أقام بعد الحرب العالمية الثانية حزاماً أمنياً وأيديولوجياً حول الاتحاد السوفياتي من خلال “المعسكر الاشتراكي” في أوروبا الشرقية. بوتين لم ينتظر ما يتصور أنه هجوم الغرب على روسيا، فقام بحرب وقائية عبر غزو أوكرانيا للحيلولة دون تقدم حلف “الناتو” إلى حدوده و”اجتثاث” ما رآه “النازية الجديدة” التي رئيسها للمفارقة يهودي، فضلاً عن هدف كبير آخر هو استعادة روسيا دورها كقوة عظمى في نظام عالمي متعدد الأقطاب على قدم المساواة بعد انحدار الأحادية الأميركية.
ولا شيء يمنع بوتين من أن يكرر نظرية المؤامرة، ولا شيء يقنعه بأن يعترف أنه بدأ حرباً كبيرة لا يزال يسميها “عملية عسكرية خاصة”، ففي مخاطبة القمة الـ15 لمجموعة “بريكس” بجوهانسبورغ، قال كمن يخاطب نفسه أمام المرآة “روسيا تريد إنهاء حرب أشعل الغرب فتيلها في أوكرانيا”، وأبسط ما طلبه هو “نظام عالمي متعدد الأقطاب عادل ومستند إلى القانون الدولي” كأن غزو أوكرانيا كان ضمن القانون الدولي، لكن الحديث عن مثل هذا النظام هو حالياً حديث عن “يوتوبيا”، فالتعددية القطبية قائمة، لكن من دون نظام.
والصين التي هي القطب القوي اقتصادياً وتكنولوجياً ومالياً وعسكرياً في مواجهة أميركا “تستعد لعالم بلا نظام” بحسب مارك ليونارد مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في مقال نشرته “فورين أفيرز”.
وروسيا، كما كان يقول البروفيسور بريجنسكي مستشار الأمن القومي أيام الرئيس جيمي كارتر “تستطيع الخيار بين أن تكون حليفة للغرب أو خادمة للصين”، وهي اختارت العداء للغرب والشراكة مع الصين التي يصعب أن تكون على قدم المساواة.
أما أميركا فإنها “تتفق مع الصين على أن نظام ما بعد الحرب الباردة انتهى، لكنها ليست مستعدة مثل الصين لعالم بلا نظام”، كما يقول ليونارد، وبوتين يبحث عن نظام ودور في عالم بلا نظام.
“اندبندنت”