«إنه يوم حزين لكل الذين يحبون المتحف البريطاني». هذا ما قاله رئيس مجلس إدارة المتحف البريطاني عندما انفجرت أكبر فضيحة سرقة في تاريخ المتحف العريق، فهو ليس متحفا عاديا، بل أشهر متحف في بريطانيا وأحد الأشهر في العالم، ويعد رمزا للتاريخ البريطاني، فجلّ ما فيه من البلدان التي احتلتها بريطانيا في الماضي.
لم يتعرض المتحف لسطو مسلح، ولا يحتاج الأمر إلى خدمات شرلوك هولمز أو هركيول بوارو، فالأمر ابسط من ذلك بكثير ولا يصلح ليكون مادة دسمة لفيلم بوليسي مثير، فمن قام بذلك شخص أو أشخاص يعملون في المتحف نفسه، أي حاميها حراميها. وقد بدأت القصة عندما اكتُشف أن حوالي ألفي قطعة أثرية سرقت أو اختفت أو خربت، وأن بعض هذه القطع من الزجاج والذهب والفضة. واكتشفت إدارة المتحف أن بعض القطع الحاوية على الذهب أو الفضة قد كسرت بالمطرقة، أو أدوات أخرى بطريقة بدائية، لعزل المعدن النفيس عن القطعة وصهرها كي تباع كذهب. وعلى ما يبدو أن القطع «المختفية» صغيرة إلى درجة أن وضعها في الجيب سهل جدا، ما يسهل إخراجها من مبنى المتحف، لكن الكارثة لا تكمن في هذا فقط، بل في أن المتحف لم يوثق جميع مقتنياته، بل إن المعلومات المتوفرة حاليا تعطي الانطباع بأن المتحف الشهير لم يوثق أغلب تلك القطع الأثرية، على الرغم من أنها كانت قابعة في مخازنه منذ مئتي عام. وصرح أحد مسؤولي المتحف بأن تلك القطع لم تكن معروضة على الجمهور، بل محفوظة في المخازن لأغراض البحث العلمي، وكأن هذا سيخفف من تأثير الفضيحة.
ومن الواضح أن هذا البحث العلمي لم يكتشف فقدان القطع، فقد اكتشف الأمر برمته أحد تجار الآثار، وجدها معروضة للبيع في موقع أيبَي ebay الشهير، حيث عرضت قطعة بمبلغ أربعين جنيها استرلينيا بينما كان سعرها الحقيقي خمسين ألف دولار، وقام بشراء سبعين قطعة 2014، وأثارت القطع شكوكه. وزادت شكوكه حتى أنه حاول نقلها إلى المتحف البريطاني عن طريق أحد الوسطاء، دون فائدة. ولذلك قام بالاتصال مباشرة بإدارة المتحف عام 2021 إلا أن مدير المتحف أجابه بشكل مهين، مؤكدا للجميع أن جميع مقتنيات المتحف، تم التأكد منها.
لكن ذلك الخبير أصر على موقفه، كما استلم المتحف معلومة مشابهة من خبير آخر وتظاهر المتحف بالثقة بالنفس حتى انهار كل شيء قبل أسابيع قليلة، حيث اعترفت إدارة المتحف البريطاني بالواقعة واعتذر مدير المتحف من ذلك الخبير، وقدّم استقالته قبل أيام قليلة. وكانت المفاجأة الأخرى أن السرقة في الحقيقة لم تكن واحدة، بل مجموعة سرقات استغرقت عشرين عاما. وقام المتحف بتحقيق داخلي أدى إلى فصل أحد كبار موظفيه، كان قد بدأ العمل في المتحف قبل ثلاثين عاما. ويصر ذلك الموظف على براءته، كما لم تلقِ الشرطة البريطانية القبض على أحد حتى الآن. ولموظفي أي متحف ميزتان تجعلهما الأفضل في سرقة مقتنيات المتحف، فالأولى كونهم داخل المتحف وقريبين من الآثار، والثانية معرفتهم أي آثار غير مسجلة، وبذلك تتم السرقة، دون أن يلاحظ أحد، ودون أي عنف ولن تعرف إدارة المتحف أنها تعرضت للسرقة أصلا. وكان واضحا أن المتحف لم يكن قادرا على اكتشاف السرقات، دون الإنذار الذي قدمه ذلك الخبير. وقد يتساءل المرء متى كانت إدارة المتحف ستكتشف السرقات اذا لم تستلم الإنذار اللازم، فهل كانت تنتظر اختفاء أحد الثيران المجنحة الآشورية، كي تشك بأن هنالك شيئا غريبا يحدث في المتحف الشهير؟
اندهش الجميع عند اكتشافهم أن هذا المتحف العريق الذي يحوي ثمانية ملايين قطعة أثرية (80000 منها فقط معروض على الجمهور) لم يوثق كل ما لديه ما يعني استحالة إثبات أن أغلب المسروقات، كانت من مقتنيات المتحف الذي تأسس عام 1753 ويعتبر من الأشهر في العالم. أما الذي تم توثيقه، فإن عملية استعادة الآثار المسروقة قد تستغرق عقودا، لاسيما إذا كانت القطع قد انتقلت من طرف إلى آخر وفي بلدان مختلفة. وما تزال التساؤلات حول سبب بطء رد الفعل من قبل إدارة المتحف، وعدم تدخل قوى الأمن وإثارة الإعلام للأمر في وقت مبكر.
من الحجج التي تلجأ إليها السلطات البريطانية لتعليل عدم إعادة الآثار إلى مالكها الشرعي، أن تلك البلدان غير قادرة على الحفاظ على الآثار بشكل صحيح. لكن هذه السرقة أعادت مطالبة اليونان ونيجيريا بآثارهما الموجودة في المتحف، حيث أعربت وزيرة الثقافة اليونانية عن عدم ثقتها بقابلية المتحف على الحفاظ على الآثار اليونانية، وأيدها رئيس اتحاد علماء الآثار ونائبه في ذلك. وأثار ذلك حفيظة أحد أعضاء مجلس النواب البريطاني الذي اتهم اليونان باستغلال الفضيحة لخدمة مصالحها. وما لم يعرفه ذلك النائب أن عدد الدول المطالبة مرشح للازدياد، فقد أخذت إحدى الصحف الصينية تطالب بإعادة ما لدى المتحف من آثار صينية، يبلغ عددها ثلاثة وعشرين ألفا.
الغريب في الأمر أن هذه السرقة التي اندلعت فضيحتها المدوية فجأة لم تكن الأولى، أو حتى الثانية في ذلك المتحف العريق، حيث سرقت مجموعة من النقود الأثرية في سبعينيات القرن الماضي، ثم سرقت مجموعة من النقود المعدنية الرومانية عام 1993. وبعد ذلك في عام 2002 سرق تمثال يوناني قديم (إغريقي) ارتفاعه اثنا عشر سنتيمترا ونحت قبل ألفين وخمسمئة عام. وسرقت خمس عشرة جوهرة من المجوهرات الصينية عام 2004، ثم سرق خاتم ماسي من صناعة شركة كارتيير الشهيرة ويقدر ثمنه بسبعمئة وخمسين ألف جنيه استرليني عام 2017. لكن هذه الفضيحة الجديدة تسلط الضوء على جانب مهم كان الجميع قد نسيه تماما، هذا الجانب هو موظفو المتاحف بشكل عام وموظفو المتحف البريطاني بشكل خاص. ولا نعرف سبب الثقة العمياء بهؤلاء الموظفين، حتى إن أحد الخبراء، ذكر أن السرقات التي يقوم بها موظفو المتاحف مشكلة مستديمة ومعروفة في عالم المتاحف. ولا يقلل هذا من حجم سوء إدارة المتحف البريطاني، بل يزيده فداحة لأنها بالتأكيد كانت على علم بوجود هذا الخطر. ومن المثير للاستغراب إعلان المتحف عن هذه السرقة، لأن المتاحف عادة لا تعلن مثل هذه الجرائم حفاظا على سمعتها وهيبتها وتملص الإدارة من المسؤولية. ويدل هذا على إهمال واضح من قبل إدارات تلك المتاحف والقوى الأمنية المختصة، التي لا تعتبر سرقة الآثار والأعمال الفنية من الأولويات. والدليل على هذا صغر حجم الوحدات الأمنية المختصة في هذا النوع من الجرائم، وتتكون الجهة المختصة في شرطة لندن من ستة ضباط فحسب، وتبحث عن سبعمئة ألف قطعة أثرية مسروقة من متاحف كثيرة.
تظهر في الإعلام العالمي تقارير عن سرقات تتعرض لها المتاحف يوميا، ومن الخطأ الظن أن المتحف البريطاني الوحيد الذي يتعرض للسرقة، لكن الإعلام يتناول تلك التي يقوم بها لصوص مسلحون، ويهمل تلك التي يقوم بها من يعمل لدى المتحف الضحية.
تظهر في الإعلام العالمي تقارير عن سرقات تتعرض لها المتاحف يوميا، ومن الخطأ الظن أن المتحف البريطاني الوحيد الذي يتعرض للسرقة، لكن الإعلام يتناول تلك التي يقوم بها لصوص مسلحون، ويهمل تلك التي يقوم بها من يعمل لدى المتحف الضحية. وقد تكون السرقة الأشهر هي سرقة الخزانة الخضراء من متحف في مدينة درسدن الألمانية، حيث حوت تلك الخزنة أهم مجموعة مجوهرات أثرية في ألمانيا، مثلت جزءا لا يعوض من التراث الألماني، وبلغت قيمتها مئة مليون دولار على الأقل. وتلتها سرقة خمسمئة عملة ذهبية أثرية من المتحف الروماني في مدينة مانشنغ الألمانية، والأمثلة كثيرة. ومع ذلك اشتهرت بعض السرقات التي قام بها موظفو المتاحف، وأحد أشهرها تلك التي قام بها مؤرخ ومحام وكاتب سويدي معروف كان يعمل مدير قسم المخطوطات في مكتبة السويد الوطنية، فقد كان يبيع ما يسرقه من المكتبة والمتاحف والمواقع الأثرية لسنوات عدة حتى اكتشف أمره عام 2004، حيث تم إثبات أنه سرق ستة وخمسين كتابا، على الرغم من ظن الخبراء أنه سرق أكثر من ذلك، لكن ذلك العدد من الكتب كانت قد تمت برهنة سرقته. وفي نهاية العام حصل انفجار ضخم في مبنى واقع في مركز العاصمة السويدية أدى إلى إصابة أكثر من عشرة أشخاص. واحتاج التعامل مع هذا الانفجار ثلاث عشرة سيارة إطفاء وست عشرة سيارة شرطة لعزل الموقع وإجلاء سكان المباني المجاورة. وبعد أربعة أيام من البحث في الحطام عُثِرَ على جثة رجل. وسرعان ما اكتشف أن ذلك الرجل لم يكن سوى المؤرخ السويدي المحتال، حيث كان يسكن في المبنى. واكتشفت السلطات أن ذلك المؤرخ قد قطع شرايين ساعديه وقص أنبوب الغاز في شقته ليسبب ذلك الانفجار الكبير، فقد عرف ذلك المؤرخ كيف يترك عالمنا بطريقة سينمائية يخلدها التاريخ السويدي. وما تزال عملية استعادة الكتب المسروقة جارية حتى الآن على الرغم من مرور أكثر من عشرين سنة على اكتشاف السرقة.
يظن البعض أن التجارة غير القانونية في القطع الأثرية هي ثالث أكبر تجارة غير قانونية في العالم بعد التجارة في المخدرات والأسلحة. ومع ذلك، فإنه من المستحيل تقدير قيمتها، على الرغم من أن هناك من يقدر أن قيمتها تبلغ ثمانية مليار دولار سنويا.
يظن البعض أن التجارة غير القانونية في القطع الأثرية هي ثالث أكبر تجارة غير قانونية في العالم بعد التجارة في المخدرات والأسلحة. ومع ذلك، فإنه من المستحيل تقدير قيمتها، على الرغم من أن هناك من يقدر أن قيمتها تبلغ ثمانية مليار دولار سنويا.
لا يشكو المتحف البريطاني من خطر تعرض مقتنياته الأثرية من خطر السرقة فحسب، بل من سوء حماية المعروضات من أي تخريب من قبل الجمهور الزائر. ومن غير المعروف ما إذا كانت قد حدثت عملية تخريب متعمدة، أو غير ذلك، لكن هذا النوع من التخريب معروف في المعارض الفنية والمتاحف، فعلى سبيل المثال قام شخص أو أشخاص ما، برش سائل زيتي على ثمانية وستين قطعة أثرية في ثلاثة متاحف في العاصمة الألمانية برلين لسبب مجهول. واثبتت عملية إزالة ذلك السائل أنها صعبة للغاية. وقد حدثت تلك العملية على الرغم من وجود عدد كبير من موظفي تلك المتاحف الثلاثة لحظة حدوثها وكاميرات المراقبة والزوار. وبالنسبة للمتحف البريطاني، ففي إمكان الزوار لمس الكثير من المعروضات بسهولة حتى إن المتحف قام في إحدى المرات بإقامة عرض خاص للذين يودون لمس المعروضات الأثرية. ومن الواضح أن إدارة المتحف لا تهتم كثيرا بحماية الآثار، أو بالأحرى «آثارنا» فلا يوجد في المتحف شيء بريطاني يستحق الذكر، نظرا لاعتماده الكامل على آثار من العراق ومصر واليونان ونيجيريا وغيرها من الدول. وبالمناسبة، فإن المرء يجد إلى جانب كل أثر معروض في المتحف، إشارة إلى البلد الذي جُلِبَ منه باستثناء الآثار الآشورية حيث لا توجد أي إشارة إلى العراق الذي ظهرت فيه الحضارة الآشورية، بل إن مكتب استعلامات المتحف يجهل اسم البلد كذلك.
باحث ومؤرخ من العراق
“القدس العربي”