بدأ الامر منذ اوائل السبعينيات، عندما كانت القصيدة تراودني في النوم، فأسحب الورق، وأبدأ الكتابة. ودون ان أعي ما كنت أفعل، أكتب مسودتي بداية في سواد الورقة وأواصل الكتابة على مفرش السرير. وفي الصباح تذهب زوجتي لغسل بقية نص المسودة بماء البيت، بعد أن تحتفظ بما علق بغطاء السرير من كتابة. لكن بعد ان انقل بقية النص إلى الورق.
٭ ٭ ٭
عندما أبدأ كتابة المسودة، لا أتوقف عند حدود الورق، فالتدفق الضاري هو الذي يقودني ولا أعرف حدود الورق من سطح قمّاش مفرش السرير، وفي ذلك مثلبة لا أفهمها، لكن المهم هو الاستجابة الحميمة لما تذهب إليه الكتابة. والمهم آنذاك أن أكتب المسودة. وتعلمت يومها أن لكتابة الشعر طقساً تقترحه الكتابة نفسها، وما على الشاعر سوى الاستجابة لذلك، وكنت شغوفاً بما تأمر به الكتابة. كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي. وقد اعتدت على إفساد مفارش البيت، مستجيباً لإنجاز مسودات قصائدي. وزوجتي تسهر على تنظيف المفارش من الأحبار، بعد الاحتفاظ بآثار الكتابة على المفارش.
٭ ٭ ٭
لم يكن الأمر اختيارياً، فما أن توقظني القصيدة، حتى أتناول الورق والقلم من الطاولة القريبة من السرير، وأكون قد اختزلت الوقت وجعلتُ من سرير النوم مكتباً افتراضياً عليه أن يحتمل صنيع الشعر في مختزلات الزمان والمكان التي استجيبُ بها لضراوة الشرط الشعري.
٭ ٭ ٭
يبقى أن عادة الكتابة في الظلام ترعرعت في حياتي، كما لو أن الضوء يغمر المكان. كنت أتفادى نزع الحالة الشعرية، بالقيام من السرير لفتح النور والجلوس على المكتب، كنت اعتقد مؤمناً بأن تلك العملية من شأنها طرد الحالة الشعرية المقترحة. لذا أتناول القلم والورق، وأنا في مكاني، وأطفق في الكتابة مباشرة.
٭ ٭ ٭
بعد ذلك. انتقلت تلك العادة في ظرف قسري، في زنزانة الاعتقال تصبح عادة الكتابة في الظلام مسألة ضرورية، اعتمدت فيها تقنية الكتابة في الليل وفي الظلام خصوصاً، لكي استفرد بالشعر وتستجيب الكتابة لشرطها بالرحابة التي يستحقها الشعر. الكلمات تضيء لي الطريق، والحروف قناديلي على الورق «المجعلك» القديم. ورق علب السجائر يرافقني في النهار والليل. أكتب في النهار، لكن الليل يكتبني.
٭ ٭ ٭
اختار زاوية الزنزانة. ثمة رغبة بالعزلة في ذلك الاختيار. البسط مفروشة على الأرض. وحدك تقابل الجدار ملتصقاً بالأرض المغسولة بعرق الصيف، المصانة بدفء مفقود في شتاء الزنازين. وحسب نظام السجن، سوف يطفئون النور في الزنازين بعد وجبة العشاء مباشرة، وعادة عند الرابعة والنصف بعد الظهر يأتون بوجبة العشاء. وليل السجن يخيم في الخامسة، وقبلها دائماً. القاعدة في السجن هو الظلام، النهار ليس مضاء عادة. وإذا صادف أنك ترى، فليس لأبعد من باب الزنزانة، من الداخل، في السجن ثمة من يرى عنك، دون أن يكون دليلاً. الرؤية لا تكون نظراً، ربما هو عادة لا يرى لك، فقد يرى عليك.
٭ ٭ ٭
أتذكر في زنزانة قديمة في القلعة القديمة في معسكر سافرة، بعد أن قضينا مئة يوم في الزنازين الخشبية (الصناديق) بعد أن تم نقلنا من سجن (جده). زنزانة ليست مجهزة للسجن، مخزن قديم من عدة مخازن في معسكر تدريب الشرطة. تم تفريغها ووضعنا فيها أربعة مخازن، متفاوتة الأحجام. تم تفريغها وتكديسنا فيها، بمجموعات عشوائية. نرى أنفسنا ونحن نلتقي معاً، بعد قضاء مئة يوم كل شخصين في (صندقة) واحدة. وكان رفيق زنزانتي المرحوم عبداللطيف راشد الغنيم.
٭ ٭ ٭
في زاوية الزنزانة القديمة، مقابلاً الجدار. ما أن يبدأ الظلام حتى أدخل عزلتي، متفادياً (حلطمة) رفاق الزنزانة وهم يلجأون إلى عتماتهم. ثمانية كائنات يتحول نهار الزنزانة، بهم، إلى ورشة أشغال مختلفة، لا نكاد نصادف وقتاً فائضاً طوال اليوم. عبد علي المقهوي رحمه الله، يعتكف على استخراج أكبر عدد من الأوراق (القراطيس) من كرتونات علب بودرة الصابون، يساعده صالح علي مكي القصير القامة، الذي ما إن يتحرش به أحد متهكماً من قصر قامته، حتى يرد عليه ساخراً (خلك أنت مركب نجوم السما). وسلمان وأخاه إبراهيم علي كمال الدين يتفننان في تنظيف وخرم نواة الزيتون اليابسة. فؤاد وأخاه جاسم سيادي يعملان على دمج وكسر خيوط الإبريسم والعمل على شكّ السبحات، وقطع «الكراكيش» لها، وأحيانا يعمل جاسم على تبييض وكتابة القصائد والنصوص الأدبية لتداولها، أو تخزينها بخطه الصغير والمستصغر. والشاعر علي الشرقاوي عافاه الله، يدربنا على رياضة الوقوف على الرأس، وهو الخبير في رياضة الجمباز. يومها سيكون الوقت أقل من العمل. كان جميعنا ينهمك في العمل لكن أذنه على حركة الشرطة والحراس خارج الزنزانة في باحة السجن.
٭ ٭ ٭
وعندما يبدأ (خرمس) الليل في الاستحكام، يكون كل منا قد دخل، أو أوشك على الدخول في أحلامه. وأتذكر أنني أستغرق في الاستفراد بالكتابة. وتنقذني موهبة الكتابة، من كواليس النوم، فكثير مما ينجزه عبد علي المقهوي مبتهجاً من أن أوراقه يجري استهلاكها في سهرتي الليلية، وكان الفرح يغمر عبد علي المقهوي عندما يستيقظ في الصباح ويجد أن أوراقه يستهلكها «فأر السهرة».
٭ ٭ ٭
كنت أجد الكلمات وهو تتوهج في خرمس الزنزانة على الورق المجعلك. وأجدها مبسوطة بجانبي على خرقة الفراش. تلك القصيدة التي كتبتها في الظلام. وعندما كنت مستغرقاً في كتابة قصائد «قلب الحب» كنتُ قد كتبتُ نصا بعنوان «تصوري» أشتُهرَ باسم «فأر السهرة» هذا هو:
تصوّري
(يسمونني فأر السهرة
تصوّري
ما ذنبي إذا كنت أفشل دوماً
في السيطرة عليك في داخلي
ويقولون إنني فأر السهرة
تصوّري ما الذي يحدث في الليل
حين ينام الرفاق
أحسّك تنداحين هنا.. هنا
كالموجة العظيمة في قلبي
كيف يمكن إخفاء ذلك
أو السيطرة عليه؟
ساعتها ألْتَصقُ تماماً بقلبي
أحضنه وأنتفض معه
ونتكئ معاً على إبرة الأزرق
نُحدِثُ أصواتاً رفيعةً
رفيعة جداً
بحيث يتحول صمت الليل إلى ضجة
وواحداً واحداً
يُطلُ الرفاق من أحلامهم
ويعتقدون أن فأراً يستفرد بقطعة الخبز اليابسة.
وفي الصباح
يكتشفون أنني كنت ألقّنُ الشعر
درساً في اللياقة
فيصرخ بي أحد الرفاق ضاحكاً :
أيها الفأر الذي يسهر متأخراً
هلاّ سهرت أكثر؟)
كاتب وشاعر بحريني
“القدس العربي”