البندقية ـ «القدس العربي»: بعد عام من عرض فيلم «إلفيس» الذي يتناول السيرة الذاتية لإلفيس بريسلي للمخرج باز لورمان، تقدم المخرجة صوفيا كوبولا في فيلمها «بريسيللا» المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية في دورته الثمانين (30 أغسطس/ آب إلى 9 سبتمبر/أيلول) القصة ذاتها مروية من وجهة نظر بريسيللا بريسلي زوجة إلفيس، ويركز على حياة بريسيللا التي خيم عليها الظل الضخم لإلفيس. الفيلم مقتبس من مذكرات بريسيللا بريسلي بعنوان «إلفيس وأنا» كتبت له السيناريو أيضا صوفيا كوبولا. وكما الحال في فيلميها «ماري أنطوانيت» و»ضائع في الترجمة» تركز كوبولا على وحشة امرأة شابة لا خبرة لها في الحياة اقتُلعت من محيطها الذي تألفه لتعيش حياة لم تخبرها ولم تألفها ولم تعد للتعامل معها.
في بداية الفيلم أول ما نشاهده على الشاشة هو قدم نسائية أنيقة طليت أصابعها باللون الأحمر، تخطو خطوات صغيرة على بساط وثير وردي اللون. وتلك هي الأجواء العامة للفيلم، فبريسيللا، كما نراها في الفيلم، امرأة وحيدة تخطو خطوات مترددة بمفردها وسط قصر منيف مخملي الأجواء يمتلكه إلفيس وأجواء مترفة يهيمن عليها ظله. نرى والد إلفيس وجدته وجلسات هادئة مع بعض أصدقائه، أو نرى قصاصات صحف عن نجاحات إلفيس وحفلاته وأفلامه وعلاقاته من بعيد، لكن أجواء الفيلم تبقى منزلية في معظم الأحيان، بعيدة عن صخب حياة إلفيس. تلعب كايلي سبايني بإتقان كبير وبرهافة وبراءة دور بريسيللا بوليو، وهو اسم عائلة بريسيللا قبل الزواج من إلفيس. نرى بريسيللا في بادئ الفيلم فتاة في نحو الخامسة عشرة سنة 1959، تعيش في بيت هادئ في قاعدة عسكرية أمريكية في ألمانيا، حيث يعمل والدها في القوات الجوية، وذات يوم وهي تتناول المرطبات بعد يوم دراسي يدعوها أحد أصدقاء إلفيس، والمسؤول عن حفلات الترفيه في القاعدة، إلى حفل يقيمه إلفيس، المجند والمقيم في القاعدة في ذلك الوقت إلى حفل في منزله. إلفيس (يلعب دوره جاكوب إلوردي) حين التقته كان نجما كبيرا في الرابعة والعشرين، تحيط به النساء والمعجبات، أما هي فتلميذة لم تخبر من الدنيا شيئا. تذهب إلى الحفل متيمة قبل أن ترى إلفيس، فهو مطربها المفضل الوسيم، ويعجب بها إلفيس فور أن يراها، ويخبرها أنها تختلف عن الأخريات، فهي بريئة صغيرة، أما هن ففي عمره تقريبا.
لكن الفيلم يؤكد مرارا وتكرارا، أن علاقتها كانت بريئة عفيفة، وإن إعجابه بها لم يكن جسديا فقط، بل لأنه كان يرى فيها عائلته وبيته، وتمثل بالنسبة له حنينه للوطن والأهل، بل إن الفيلم يصور أن بريسيللا أرادت أن تحول علاقتها بإلفيس إلى أكثر من حب أفلاطوني، إلا أنه كان يأبى حتى يحين الوقت المناسب لذلك. في عالم ينظر فيه باستنكار شديد للعلاقات لمن هن دون سن الرشد مع رجال يكبروهن كثيرا، وستختلف الآراء حول هذه العلاقة، وحول تأكيد المخرجة على أنها علاقة صحية طبيعية بريئة، لكن الفيلم مقتبس عن مذكرات بريسيللا التي صورت العلاقة بينها وبين إلفيس بهذه العذرية الأفلاطونية. تصبح بريسيللا ضيفا معتادا في حفلات إلفيس في منزله، تجلس في هدوء بملابسها ذات الألوان الهادئة البريئة ولا تنخرط في الشراب، وحين تخلو بإلفيس لا تتعدى علاقتهما الأحضان البريئة. يعطيها إلفيس أحيانا أقراصا تبقيها ساهرة متيقظة في الحفلات، أو في المدرسة أو أقراص منوم. هي مؤشرات على أن ثمة شيئا غريبا خلف هذه الواجهة البريئة البراقة.
لا يلقي إلفيس كما نراه في الفيلم بريسيلا في عالم الكبار، أو في عالم الجنس والعلاقات والمخدرات، بل يطلب من أسرتها أن تأتي بريسيللا إلى قصره غريسلاند، في ممفيس بولاية تنيسي، لتكمل تعليمها وتعيش في كنف والده وجدته حتى يأتي الوقت المناسب لارتباطهما. هناك في غريسلاند يهديها جروا ليؤنسها، وحين يصحبها لشراء ملابس، يصر على أن ترتدي ملابس محتشمة ذات ألوان هادئة، وحين تختار ثوبا لافتا يقول لها إنه لا يناسبها. يصبح إلفيس هو المتصرف في حياتها، الذي يحدد ما يليق وما لا يليق لها من الملبس، يبقيها في منزله حين سفره في جولات حفلاته أو لتصوير أفلامه.
ربما نحن كمشاهدين نرى أن بريسيللا تتحول يوما بعد يوم إلى دمية يتحكم في خيوطها إلفيس، يدنيها حين يشاء ويبعد حين يشاء، ويختار لها من الملابس ما يشاء. لكن الفيلم لا يعقب على ذلك، ويستمر في تصوير العلاقة كعلاقة حب عذري، كعلاقة لا عوار فيها ولا خلل. نجاحات إلفيس أو إخفاقاته، أفلامه وعلاقته مع نجمات أفلامه، هي أمور بعيدة عن عالمها المخملي، لا تشارك فيها قط، ولا تقرأ عنها إلا في الصحف. في قصر غريسلاند، الذي يبدو كبيت كبير فسيح دافئ، تلقى بريسيللا الحفاوة والود والرعاية من والد إلفيس وجدته، ويعاملها أصدقاؤه بود ولطف واحترام. في الوقت المناسب لإلفيس، وحين يرى أن الوقت قد حان للزواج، يقدم خاتمه لبريسيللا متأكدا من قبولها، بل من امتنانها أن هذا النجم المحاط بكل هؤلاء النجمات والمعجبات اختارها دون سواها. ورويدا رويدا نرى بريق بريسيللا يخبو تحت وطأة الوحشة ومسؤولية الزواج والحمل والأمومة، تصبح كما لو كانت أسيرة في حصن مخملي أنيق. ينغمس إلفيس في علاقاته وخمره ومخدراته، بينما تزداد وحشتها يوما بعد يوم. حين يلقاها تزداد عصبيته يوما بعد يوم وتحاول هي أن ترأب الصدع وتبقي البيت والزواج. نرى إلفيس يحطم كوبا غضبا ذات شجار، لكن كوبولا تبقي الأصوات بخلاف ذلك خافتة، والخلاف صامتا، حتى قد لا يتبادر للأذهان أحيانا ما الذي يدعو بريسيللا لأن ترغب في الانفصال. تبقى بريسيللا في وحشتها المنزلية بصورة دائمة، متزوجة من رجل غائب دوما بينما تبقى هي لـ «تبقي البيت دافئا» كما يطلب منها دوما. لا يعنيه أنها وحيدة، وأنه أبقاها بلا مستقبل ولا مهمة سوى الاعتناء به.
ما بين غياب إلفيس الدائم، وعزوف بريسيللا عن أن تجد ما تملأ به خواء أيامها يتبدد الزواج وبعد أعوام من الصمت تجد بريسيللا الشجاعة للانفصال. قد نشاهد الفيلم، وننتهي من مشاهدته دون النفاذ إلى أعماق بريسيللا، لكن هذا ليس خطأ صوفيا كوبولا، فقد بنت فيلمها على مذكرات بريسيللا، وهكذا قدمت بريسيللا ذاتها في مذكراتها.
“القدس العربي”