لكن ثمة عددًا أكبر وأكثر ضبابية تجاوزه منذ فترة طويلة: عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم بطريقة غير مباشرة نتيجة للآثار بعيدة المدى ودائمة الاتساع لصراعات ما بعد 11/9، مثل موجات العنف التي تلت، والجوع، وتدمير البنى التحتية والخدمات العامة وانتشار الأمراض.
يعتمد باحثو جامعة براون، في تقرير صدر عنهم في بداية نيسان (أبريل) من هذا العام، على بيانات الأمم المتحدة وتحليلات الخبراء لمحاولة حساب الحد الأدنى لعدد الوفيات الإضافية التي تُعزى إلى “الحرب على الإرهاب” والصراعات التي جلبتها في أفغانستان، وباكستان، والعراق، وسورية، وليبيا، والصومال واليمن، وهي تأثيرات “واسعة ومعقدة لدرجة أنه” في نهاية المطاف “لا يمكن قياسها كميًا”، كما يعترف الباحثون.
تقدَّر الحسابات، بالقدر الذي يمكن قياسه، عدد القتلى بما يتراوح بين 4.5 مليون و4.6 مليون قتيل -وهو رقم يواصل الارتفاع مع استمرار تردد أصداء الصراع في العديد من الأماكن. ويقدر التقرير أن حوالي 3.6 مليون إلى 3.7 مليون من هذه الوفيات كانت “وفيات غير مباشرة”، ناجمة عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والبيئية والنفسية والصحية.
قتل أكثر من 7.000 جندي أميركي في العراق وأفغانستان، إلى جانب أكثر من 8.000 من المتعاقدين العسكريين، وفقًا لـ”مشروع تكاليف الحرب” في جامعة براون. كما عانت القوات الأميركية من آثار متتالية أخرى خاصة بها، بما في ذلك معدلات الانتحار بين قدامى المحاربين التي تفوق مثيلاتها بين عامة السكان.
لكن الغالبية العظمى من القتلى الذي سقطوا في القتال كانوا من السكان المحليين: فقد توفي أكثر من 177.000 أفغاني وباكستاني وعراقي ومن الحلفاء السوريين بالزي الرسمي العسكري حتى العام 2019، وفقًا لـ”مشروع تكاليف الحرب”، إلى جانب عدد كبير من المقاتلين المعارضين والخسائر المدنية التي ما تزال تقديراتها محل جدال.
تقول ستيفاني سافيل، مؤلفة الورقة والمديرة المشاركة لمشروع تكاليف الحرب: “هناك تكاليف ما تزال تحدث: التكلفة البشرية للحرب التي لا يعرف الناس في الغالب في الولايات المتحدة ما يكفي عنها أو يفكرون فيها.
إننا نتحدث عن أن الأمر انتهى الآن بعد أن غادرت الولايات المتحدة أفغانستان، لكن إحدى الطرق المهمة التي تستمر بها هذه الحروب” هي أن “الناس في مناطق الحرب ما يزالون يعانون من العواقب”.
ما يزال إرث الحرب التي تقودها الولايات المتحدة على الإرهاب مستمرًا في إفراز عواقبه الكارثية التي يعاني منها الناس في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا الوسطى -وهي فجوة تقول سافيل إن البحث الذي يستند إلى بيانات غير كاملة يهدف إلى معالجتها من خلال توفير تقدير تقريبي لشبكة التداعيات. وأضافت سافيل: “إن الممارسة التي ترمي إلى توفير مثل هذا النوع من التقدير تسمح لنا بالبدء في التعامل مع حجم المشكلة بما هي عليه حقًا”.
يمكن أن يكون تجميع التقديرات للخسائر المدنية المباشرة التي أحدثتها هذه الحروب محفوفًا بالمخاطر السياسية: غالبًا ما يكون عدد القتلى الذي تعلنه واشنطن وحلفاؤها أقل بكثير من الأرقام الواردة في التقارير المحلية.
في العراق، تتراوح الخسائر البشرية المقدرة الناجمة عن القتال بين 151.000 و300.000 إلى 600.000 شخص، وفقًا للتقرير الجديد. وقد وثقت صحيفة “الواشنطن بوست”، من بين منافذ أخرى، وجود تناقضات حادة وأرقام رسمية تقلل إلى حد كبير من عدد القتلى الذين سقطوا نتيجة للضربات الجوية وحملات القصف بالمدفعية التي نفذتها قوات تحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، التي استهدفت تنظيم “داعش”. ووجد تحقيق أجرته صحيفة “الواشنطن بوست” في المدفوعات الأميركية لعائلات الضحايا المدنيين في أفغانستان أن الجيش الأميركي اعتمد “تعاملاً غير متساو وغير شفاف عادة مع الخسائر المدنية في عمليات ساحة المعركة”.
منذ العام 2010، احتفظ فريق مكون من 50 باحثًا وخبيرًا قانونيًا وناشطًا لحقوق الإنسان وطبيبًا مشاركًا في “مشروع تكاليف الحرب” بحساباتهم الخاصة. ووفقًا لتقييمهم الأخير، فإن أكثر من 906.000 شخص، من بينهم 387.000 مدني، لقوا حتفهم مباشرة في حروب ما بعد 9/11. كما نزح 38 مليون شخص آخر من ديارهم أو أصبحوا لاجئين. وفي الوقت نفسه، أنفقت الحكومة الفيدرالية الأميركية أكثر من 8 تريليونات دولار على هذه الحروب، كما يشير البحث.
لكن سافيل تقول إن البحث يشير إلى أن عددًا أكبر من الناس، وخاصة من الأطفال والسكان الأكثر فقرًا وتهميشًا، قتلوا بسبب آثار الحرب -الفقر المتزايد، وانعدام الأمن الغذائي، والتلوث البيئي، والصدمات المستمرة الناجمة عن العنف، وتدمير الصحة والبنية التحتية العامة، إلى جانب فقدان الممتلكات الخاصة ووسائل كسب الرزق.
في سيناريو مثالي، كما تقول سافيل، يمكن لفريقها تحديد عدد القتلى من خلال دراسة معدلات الوفيات الزائدة، أو باستخدام باحثين على الأرض لدراسة من هو الذي يموت ولماذا. لكن مثل هذا النوع من التوثيق، حتى في ما يتعلق بشهادات الميلاد والوفاة، غير متوفر إلى حد كبير في البلدان المعنية التي مزقتها الحروب.
بدلاً من ذلك، اعتمدت سافيل على حسابات “أمانة إعلان جنيف”، وهي مبادرة تدعمها الأمم المتحدة للتعامل مع مسائل العنف المسلح والتنمية، والتي تقدر أن هناك، مقابل كل شخص يُقتل مباشرة بسبب الحرب، أربعة آخرين يُقتَلون بسبب عواقبها غير المباشرة. فالحرب، التي غالبًا ما تؤدي إلى انهيار اقتصادي عام يسود كل جانب من جوانب المجتمع، تقوض إمكانية الحصول على الضروريات الحياتية، مثل الماء والغذاء والبنية التحتية اللازمة للتنقل الآمن والرعاية الطبية.
ويخلص التقرير إلى أن “الغالبية العظمى من الوفيات غير المباشرة الناجمة عن الحرب تحدث بسبب سوء التغذية، والمشاكل المرتبطة بالحمل والولادة، والعديد من الأمراض، بما فيها الأمراض المعدية والأمراض غير السارية مثل السرطان. وبعضها ناتج أيضًا عن إصابات ناجمة عن تدمير الحرب للبنية التحتية مثل إشارات المرور ومن الصدمات النفسية وتصاعد العنف بين الأشخاص”.
بعد مرور أكثر من عقدين من الزمن على بدء حروب ما بعد 9/11، يبدأ الآن فقط الاعتراف بحجم ومدى التهديدات المستمرة التي تشكلها لحياة البشر والكشف عنها.
ووجد تحقيق أجرته صحيفة “الواشنطن بوست” أنه في حين أن العراقيين أصيبوا بالمرض وماتوا بعد تعرضهم لحفر القمامة المحترقة التي أنشأها الجنود الأميركيون في القواعد العسكرية، فإنه لم يكن هناك أي جهد أميركي لتقييم التأثير المحلي، ناهيك عن دفع التعويضات عنه.
وفي العام الماضي، نجح قدامى المحاربين الأميركيين في معركة استمرت لسنوات من أجل جعل الحكومة تعتبر بالمخاطر السامة لهذه المنشآت.
وقالت سافيل إن تحديد ما إذا كانت الوفيات متعمدة ومن يتحمل المسؤولية المباشرة هو خارج نطاق الدراسة.
وأضافت: “لا يمكنك فرز مَن تسبب في الوفاة لأن هناك الكثير من الأطراف المتحاربة المختلفة” وغيرها من العوامل التي تعقد الأمور، من الحكم الاستبدادي إلى تغير المناخ. “النقطة المهمة هي إظهار أن الولايات المتحدة كانت متورطة في هذه الحروب العنيفة حقًا.
كان هناك تكثيف للخسائر نتيجة لمشاركة الولايات المتحدة. وفي هذه المرحلة، القضية الحقيقية هي: كيف يمكننا أن نتصالح مع الشعور بالمسؤولية؟
“الغد”