يمكن اعتبار المقتلة التي جرت في «كلية العلوم الحربية» في مدينة حمص السورية أمس، وخلّفت حسب آخر حصيلة، أكثر من مئة قتيل، والقصف الذي سبقها ولحقها على المناطق الخارجة على سلطة بشار الأسد، استمرارا للمقتلة الكبرى التي ابتدأها النظام الحالي كردّ على الثورة الشعبية العارمة التي قامت ضده عام 2011.
لا يختلف بيان جيش النظام الذي أصدره إثر حادث الكلية الحربية أبدا عن مجمل البيانات التي صدرت على امتداد السنوات الماضية، حيث اتهم «التنظيمات الإرهابية المسلحة المدعومة من أطراف دولية معروفة» وهو اتهام يتقصّد التعمية بدل الكشف، والالتباس بدل الإيضاح، لأنه اتهام جاهز يمكن فكه وتدويره وتلبيسه لأي طرف أو جهة أو جماعة.
بدأ الأمر، في الأشهر الأولى للاحتجاجات السلمية العفوية، مع سجن أطفال كتبوا شعارات على جدار مدرسة، واتهام شيخ جامع أعمى بالإرهاب وجمع الأسلحة في المسجد، وقتل نساء قرية اعتقدن أن حرمة العمر والأنوثة ستقيهن من العنف الوحشي، ليكرّ بعد ذلك مسلسل لا ينتهي، لم يتوقف فيه النظام عن ابتكار أشكال جديدة من القتل الطائفي والتطهير العرقي والديمغرافي وللعنف العسكري، الذي استخدمت فيه الطائرات الحربية والمدافع والدبابات وصولا لتجريبه عمليات الإبادة الجماعية بالأسلحة الكيميائية.
كما يحصل عندما تنفلت الحدود المنطقية للقتل وتحصد أعدادا كبيرة من البشر تتحوّل المطالبات بالحقوق البسيطة إلى حاجة ملزمة بالدفاع عن النفس، وسرعان ما تتحوّل الاحتجاجات السلمية إلى صراع عسكري أهليّ.
وكما يحصل عندما يخرج حكام بلد عن القوانين والشرع الدولية والأعراف الإنسانية يجرّ الصراع الداخليّ الأطراف الدولية والإقليمية للتدخّل ويتحوّل البلد إلى ساحة مفتوحة تستقطب الجيوش والميليشيات والأجندات السياسية المتضاربة، وينقسم السكان إلى لاجئين ونازحين ومشاريع هروب، وإلى قادة وعناصر تعيش على اقتصاد الحرب الناشئ الذي يتغذى من المجازر وتزدهر أعماله على دماء السوريين وكل من في حكمهم ممن يجد نفسه، طوعا أو كرها، ضمن دوامة العنف الدائرة التي لا يتوقف مسارها على مدار الساعات والأيام.
يُفصح يوم الخميس الدمويّ أمس عن الكثير من مفارقات هذه الوضعية. أول هذه المفارقات أن المجزرة حصلت في الموقع الذي يعتبر الكليّة العسكرية الأهم في سوريا، والتي تخرّج الضباط الذين يفترض، نظريا على الأقل، أنهم سيدافعون عن البلاد وأهلها، وتظهر الواقعة أن هؤلاء المدافعين المفترضين عن البلاد قد تعرّضوا هم أنفسهم للهجوم. لا تتفوق على هذه المفارقة الفظيعة إلا فكرة أن النظام لن يستخدم هؤلاء الضباط للدفاع عن نفسه ضد الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على مواقعه ومطاراته والقوى الحليفة له، بل سيزج بهم، كما فعل على مدار الأعوام الماضية، إما في التنكيل بمواطنيهم، أو في حراسة آلة صناعة المخدرات التي أصبحت المورد الاقتصادي الأهم بالنسبة للعصبة التي تحتكر السلطة.
لم يكذّب النظام خبرا طبعا، فردا على ما حصل في الكلية الحربية، تابعت قواته استهداف عشرات المواقع، ولكن ليس في إسرائيل، ولكن في سوريا نفسها، وتابع بذلك ما نشأ وتعود عليه في اعتبار الشعب السوري هو العدو الأول له، وليس أعداء البلاد، الذين ساهموا، في أكثر من لحظة فاصلة، أثناء السنوات التي مرت، في حمايته، ومنعه من السقوط.
لم ينس النظام أن يهنئ نفسه طبعا بالحديث عن خروج وزير دفاعه علي عباس، ومحافظ مدينة حمص، من الكلية الحربية قبل وقوع الهجوم!
لم توقف الواقعة التي جرت في حمص، أيضا، تحرّكات القوى الإقليمية والعالمية على الأرض والأجواء السورية، فتابع «التحالف» الذي تقوده أمريكا، عملياته «الخاصة» التي تعتمد إخباريات ذراعه العسكري في سوريا، «قوات سوريا الديمقراطية» وتابعت الميليشيات الإيرانية تحرّكاتها على الحدود العراقية ـ السورية وفي المواقع والمطارات والمخازن في الداخل السوري، وتابعت تركيا هجماتها على حزب العمال الكردستاني ردا على العملية الأخيرة في أنقرة.
تتعامل الأطراف هذه كلها، بما فيها النظام، مع سوريا وسكانها كجغرافيا وديمغرافيا مستباحة، وتحدث، أثناء ذلك، بعض الاشتباكات غير المحسوبة، بين الدول والجهات والقوات التي تتحرّك في كل الاتجاهات، ثم تعود الأمور إلى «طبيعتها» حيث تتكرر الأيام الدموية السورية من دون نهاية منظورة.
“القدس العربي”