لن يتوقف الخطاب الصهيوني عن استعادة مقولة الضحية التي أصبحت مستهلكة. ولعل الدافع إلى قول هذا الرغبة في صون صورة الضحية، وهذا ما يمكن أن نقع عليه في خطاب مندوب دولة الكيان الصهيوني جلعاد أردان في مستهل بدء الأحداث الجارية في الأراضي الفلسطينية. لقد سارع مندوب الكيان الصهيوني – في مجمل خطابه – إلى الاتكاء على التمثّل التاريخي لمقولة الضحية، وهي صيغة تتقن دولة الكيان الصهيوني عبر خطابه التاريخي إلى توظيفها، كما أنها غالباً ما تُستدعى في طيف توجهاته الخطابية تجاه المجتمع الدولي، ولاسيما على منصة الأمم المتحدة، ما يدفعنا إلى نقل هذا الخطاب من المنظور السياسي إلى المنظور الثقافي بغية الوقوف على نسق تكوين خطابات مضللة تعاني من اختلال أو مغالطات، لا يمكن لأحد أن ينكرها، وتكمن في وعي الخطاب الصهيوني.
لقد اعتمد الخطاب على ثلاثة مرتكزات محددة: البعد التاريخي، ومن ثم محورية تمثيلات الضحية، وأخيراً التنميط السلبي للفلسطيني من حيث تأطيره بصورة الجلاد ضمن تنظيم خطابي واضح.
نلاحظ بأن مرجعية التاريخ الذي تأسس عليه هذا الكيان ما هو إلا نموذج ثقافي ابتكر وظيفياً، ويعتمد على أسطورة ثنائية تتسم بالمفارقة، إذ تجمع بين الضحية التاريخية بالتوازي مع نموذج ادعاء القوة والترهيب (البطل) والثانية نتجت بفعل أسطره الكيان ذاته مقابل العرب، ولاسيما منذ نشأتها من حيث تكريس الإيمان العميق بالتّفوق، فأصبح العرب مهزومين نفسياً وثقافياً. ولعل تاريخ الهزائم العربية، وتخاذل العرب ساهم في تخليق هذا النمط الذي كان نتاج مرحلة، في حين نرى أن تعاضد التاريخ يعتمد تبادلية متقنة بين صيغتي الضحية والبطل من قبل الصهيونية، وهنا يسعى هذا الخطاب إلى توظيف تلك المقولتين – حسب السياق – فهي تلجأ إلى الترهيب عبر تقديم صورة البطل الذي لا يُقهر، وحين تخضع لهزيمة، فهي تستدعي صورة الضحية، وكلاهما يعتمدان مرجعية تاريخية وُظفت خارج سياقها الحقيقي. إذا ما تأملنا ملياً خطاب المندوب الذي اعتمد تمثيل بعض مواطني دولة الكيان بوصفهم من الناجين من الهولوكوست والنازية بغية تمكين البعد العاطفي، علاوة على مخاطبة الذاكرة الغربية المسكونة بعقدة الذنب، والمنظومة التي اتصلت بها، وبذلك فقد أضحى هذا النسق شكلاً من أشكال الاستغراق بصيغ هذه الثنائية، وهنا أستدعي ما أشار إليه المفكر اليهودي زيجمونت باومان في كتابه «الحداثة والهولوكوست» بأن اليهود يتعاملون مع الهولوكوست بوصفه ملكية لليهود، ويجب أن يستخدم من قبل إسرائيل – فقط – من أجل تحقيق شرعيتها، فالمندوب حين تحدث لجأ إلى عرض بعض الصور كي يؤكد مقولة الضحايا المدنيين، في حين تناسى الضحايا الفلسطينيين المدنيين، وما قام به المستوطنون وجنود الاحتلال من قتل وحرق.
لقد ركز مندوب الكيان على النساء والأطفال والعجائز، وشدد على أن بعضهم من كبار السن الذين نجوا من النازية، وقال بأنهم ذهبوا إلى فلسطين هرباً من خطر النازية، وبذلك فقد توجه إلى مركز الوعي الغربي، ومن ثم عمل على ربط المقاومة الفلسطينية بالنازية والإرهاب، وهو نمط من التزييف يعتمد مرجعية حساسية الإرهاب لدى الغرب، بالتوازي مع عقدة ذاكرة النازية، في حين أشار جمع من المثقفين كما منظمات دولية، كمنظمة العفو الدولية و«هيومن رايتس ووتش» بأن هذا التوظيف للهولوكوست يستخدم لقمع المدافعين عن حقوق الإنسان – كما جاء على موقع مركز مالكوم كير ـ كارنيغي للشرق الأوسط – في حين يشير الراحل شفيق ناظم الغبرا في مقال نُشر في صحيفة «القدس العربي» بعنوان «أيديولوجيا العنف الإسرائيلي ومعنى الهولوكوست» بأن التعريف الجديد للاسامية من قبل الخارجية الأمريكية يعتبر أن مجرد «المقارنة بين جرائم النازيين مع السياسات الإسرائيلية الراهنة» عداء للسامية.
إن الصراع على مفهوم الضحية واحتكار معناه ليس محصوراً على اليهود، إنما كان جزءاً من تاريخ العالم، فثمة شعوب أخرى تعرضت لاضطهاد، ومجازر، وتصفية عرقية، ومنهم الشعب الفلسطيني، صاحب التاريخ الأكبر في هذا المجال منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبهذا فإن مفهوم الضحية ليس حكراً على اليهود، لكن الكيان الصهيوني سيبقى متمحوراً حوله من أجل تبرير شرعية وجوده، ولا شيء غيره، لكن ذلك لا يكفي.. فهناك حقائق ووقائع، وتاريخ حقيقي يتعلق بنا.
من جهة أخرى فقد سعى بعض محللي الخطاب الصهيوني إلى تشبيه الزلزال الفلسطيني بما حصل في نيويورك قبل عقدين من الزمن، وهكذا نرى أن الخطاب الصهيوني يتكئ على نمطية عاطفية مع جملة من الأنساق اللغوية الثقافية التي توظف لتحقيق غاياتها. إن التّشوه الحقيقي يكمن في وعي الإنسان الغربي، ونظمه السّياسية، وما هذا الخطاب العاطفي الصهيوني سوى ترويج يستهدف الرأي العام الغربي، ومواطنه البسيط والساذج، ولاسيما في ما يتعلق بالقضايا التي تقع خارج أطر حدوده، لكننا نعلم جميعاً بأن وجود الكيان الصهيوني ليس سوى نموذج متقدم من نماذج الكولونيالية الجديدة، بل هو قاعدة تستهدف الإبقاء على المنطقة في متاهات الاقتتال، ونزع أي محاولة للنهوض والازدهار للمنطقة، والذي يمكن أن يحول دون تحقيق مصالح الغرب، وللأسف فإنّ بعض النظم السلطوية العربية ترى في هذا النهج جزءاً من تمكين وجودها الهش في ظل غياب نموذج ديمقراطي.
لقد بدت محاولة تقديم صور عن الضحايا الصهاينة أقرب إلى مسرحية الكل يعلم بأنها مستهلكة، فهذا الكيان لم يتوقف عن القتل والتهجير، وإنتاج أكبر منظومة من الضحايا الفلسطينيين على مدار عقود، في حين أنّ المراهنة على استمرارية صورة الضحية اليهودية يبدو ضرباً من الابتزاز العاطفي للغرب، من لدن كيان عُرف عنه الإجرام لدى الجميع، وما مقولة ديمقراطية إسرائيل سوى أكذوبة تروجها الدعاية الغربية، فهذا الكيان ينهض على العنصرية، علاوة على تداول السلطة بين نخب فاسدة، فضلاً عن انتهاكها الدائم لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى أنها نظام كولونيالي قائم على نظام الفصل العنصري، فضلا عن دوره في تأجيج الصراع عبر الاستفادة من منظومة تجارية تعتمد السلاح.
لقد حاول الكيان استثمار ثنائية خطابية، وبمعنى الانتقال من نموذج الضحية إلى الجلاد بهدف تحقيق شرعية زائفة تتجلى بأمن وجوده ضد الإرهاب، في حين يتجاهل العالم بأنه من حق الشعب الفلسطيني أن يقاوم المحتل، وهذا نهج لا يختلف عليه اثنان، وتنصّ عليه المواثيق الدولية، غير أنّ المعضلة حين تتقاطع تلك المقولات مع ارتهانات سياسية ذات طابع ينهض على المصالح لا القيم، فالغرب يتوقف أو يتعطل (عقله) حين يتعلق الأمر بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فيكثر الحديث عن المفاوضات، والحل السلمي الذي تعطله إسرائيل من عقود، وهذا مما يُعري هذا الخطاب القيمي برمته، وما تحريك البوارج الأمريكية إلى شواطئ فلسطين سوى محاولة تكريس هذا البعد، بل إن هذا يبدو جزءاً من تأكيد هشاشة هذا الكيان الذي يحتاج إلى كل هذا الدعم، كونه لا ينهض على شرعيّة حقيقية، فوجوده ما هو إلا تلفيق تاريخي تواطأت عليه جملة من الأنظمة ذات الخلفية الاستعمارية في العالم. إن النظر إلى وجود إسرائيل يتصل بغايات وظيفية، وكل ما يتصل بنموذج وظيفي ينتهي بمجرد انتهاء الغاية منه، ومن ذلك مقولة الأبرياء التي تقفز إلى الواجهة عند كل مواجهة، وما فعل استرجاع هذه الخطابات القائمة على الهولوكوست، سوى جزء من هذا النموذج، غير أنه يعكس ضعفاً أكثر مما هو قوة.
إن الصراع على مفهوم الضحية واحتكار معناه ليس محصوراً على اليهود، إنما كان جزءاً من تاريخ العالم، فثمة شعوب أخرى تعرضت لاضطهاد، ومجازر، وتصفية عرقية، ومنهم الشعب الفلسطيني، صاحب التاريخ الأكبر في هذا المجال منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبهذا فإن مفهوم الضحية ليس حكراً على اليهود، لكن الكيان الصهيوني سيبقى متمحوراً حوله من أجل تبرير شرعية وجوده، ولا شيء غيره، لكن ذلك لا يكفي.. فهناك حقائق ووقائع، وتاريخ حقيقي يتعلق بنا.
كاتب أردني فلسطيني
“القدس العربي”