تعتبر إسرائيل جيشها من أكثر جيوش العالم نبلا وأخلاقا، فكل ما تفعله هو عمليات مبررة للدفاع عن أبنائها المستضعفين ضد هجمات وحشية من همجيين لا تخلع عليهم صفة الإنسانية؛ فكما يراهم المحتل، وتروج لتلك الفكرة عالميا، هم مجرَّد أشباه آدمية، أو بشكل أدق «زومبي» مدفوع برغبة واحدة، وهي القتل أو الفتك بكل من يقابله دون رحمة أو تمييز.
وكالعادة، يبرع الصهاينة في قلب الحقائق عندما أخذوا من مقولة الفلسطنيين الشهيرة «نحن أمَّة تحب الموت» دليلا عمليا على زعمهم بأن الفلسطنيين ليسوا آدميين، بل آلات انتحارية وحشية، فقد أخرج الصهاينة سيناريو محبوك لفيلم يحاول فيه البطل ذو الشخصية المحورية، التي يبرز المخرج جميع تفاصيل حياته ومشاعره، أن يحارب قوى الشرّ التي تظهر طوال الفيلم عبارة عن شخصيات مسطَّحة لا يمكن للمشاهد أن يتعاطف معها؛ لأنها بكل بساطة تعمل على تعكير صفو حياة البطل الإنساني النزعة، وقد صدَّق، ولا يزال يصدِّق، المجتمع الدولي هذا السيناريو الخيالي، بل يساندونه. ومن اللمسات الصهيونية التي تضع ستارا سميكا لحجب الحقائق الواضحة قول عبارات طنَّانة يبرر بها الصهاينة أفعالهم الوحشية. فعلى سبيل المثال، عندما شرع الصهاينة في قتل الأطفال، قالت غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل في ذاك الوقت، بنبرة تُدمى لها القلوب: «لن نسامح أبدا الفلسطينيين لأنهم جعلونا نقتل أطفالهم» وبهذا أظهروا أن المجنى عليه متوحِّش يؤذي شعور الصهاينة، تماما كالتنين في رواية لويس كارول Lewis Carol «أليس في بلاد العجائب» عندما يبكي بحُرقة فيجعل الإستاكوزا تهرع بكامل إرادتها إلى إلقاء نفسها في القدر المملوء بمياه تغلي وتفور حتى تهدِّئ من روع التنين، تماما كما يفعل الغرب المتعاطف، لكن القربان الذي يقدِّمونه ليس أنفسهم، بل يقدِّمون له فلسطين وجبة سائغة.
عند بدء عملية طوفان الأقصى، رسمت المقاومة الفلسطينية سيناريوهات عدّة للرد العنيف للصهاينة. وجميع ما تخيَّلوه أو لم يتصوَّروه من سيناريوهات للرد الإسرائيلي، كانت بالفعل متوقعة؛ فردود الصهاينة طوال سبعة وخمسين عاما موجعة وشديدة القسوة، ولا تراعي القوى غير المتكافئة. فالعقاب الجماعي للشعب الفلسطيني وقصف مستشفى روادها من الأطفال والمرضى والجرحى ليس بردة فعل غير متوقَّعة، فقد دأب الصهاينة على اقتراف أعمال مشابهة تُدمى لها القلوب وتجحظ لها العيون من الدهشة، لكن ذاك العنف المُفرط على الدوام يبوء بالفشل، وأكبر دليل على هذا أن تلك القوة الغاشمة منذ خمس وسبعين عاما وحتى الآن تمارس نفس تلك الأفعال الوحشية، لكن بلا طائل؛ فلا يزال الوضع كما كان عليه منذ أكثر من سبع عقود.
«طوفان الأقصى» هو حجر تم إلقاؤه في مياه راكدة منذ أربعة عشر عاما، لم يرغب طوالها المستعمر، حل الدولتين إلى كيانين مستقلين، أو ترك الأهالي تنعم بالراحة داخل بلادهم؛ فما أكثر الاعتداءات غير المبررة على الأبرياء وعلى المصلين المعتكفين داخل المسجد الأقصى.
ويحاول العدوان الصهيوني الغاشم تحويل عملية «طوفان الأقصى» إلى نصر مبين، يضيف إلى نجاحه بعد حرب 1948، عندما استطاع العدوان الغاشم ترحيل أهل البلاد من أراضيهم، وتشتيت أبناء الأمة في بلاد مجاورة. وبعد أن كان أبناء البلد يرفلون في خيرات أرض فلسطين، صاروا لاجئين في جميع أنحاء العالم محرومين من حق الرجوع لدولتهم إلى الأبد؛ فما تركوه من أرض ومسكن صار مُستعمرة يرفل المستعمر في خيراتها. وتكرارا لما حدث عام 1948، يقف العدوان الصهيوني أمام العالم مُعلنا رغبته في القضاء على جميع أشكال المقاومة في فلسطين، والسبيل في تحقيق مأربه تهجير أبناء البلد، ودون شكّ، لو تمّ إخلاء أي شبر من الأرض المحتلَّة لن يستطيع أبناؤها الرجوع إليها مرَّة أخرى، كما حدث بعد حرب 1948، وأكبر دليل على هذا الإعلان المُسبق للمستعمر الصهيوني عن خريطة دولته الجديدة التي تحتوي على منطقة يُطلق عليها «البعث الجديد» في وادي غزَّة.
وفي ما يبدو أن المذابح الجماعية والعقاب الجماعي، الغرض منها تهجير أبناء الأرض المحتلَّة، بمثابة خطوة أولى في توسعة الرقعة التي يقطنها المحتلّ الصهيوني، على الرغم من الكثافة السكَّانية الشديدة المتمركزة في قطاع غزَّة التي تعدّ الأكثر عالميا، فعدم تصعيد المناوشات مع حزب الله شمالا مجرَّد تأجيل لمواجهة يعتزم المحتل الصهيوني تنفيذها بشراسة مفرطة بعد الانتهاء من تهجير أبناء قطاع غزة، حيث أن الكثافة السكَّانية تحول دون دخول المعتدي الذي إن فعلها لن يسلم من حرب شوارع شرسة يخرج منها مهزوما. ولهذا، يلجأ المستعمر إلى قصف المساكن حتى يتم تهجير سكَّان المنطقة قسريا ويتم تجفيف منابع المقاومة؛ فلن يجد من يقاومه بعد أن دمَّر مدينة بأكملها، وحوَّل ما يزيد على ثلاثين ألف بناية إلى رُكام، وبذلك شرَّد أكثر من مليون شخص وحرمهم من الماء والغذاء والكهرباء، حتى يضغط على دول الجوار أن تستقبلهم. وإذا نجح هذا المخطط، سوف يعمل المستعمر على تصعيد الصراع مع جنوب لبنان، محوِّلا المناوشات إلى عملية إبادة شاملة نتيجتها المضمونة الحصول على رقعة أرض جديدة وتوسيع رقعة الكيان الصهيوني.
وبدفع الفلسطينيين للجوء إلى دول مجاورة، يعلم المحتل الصهيوني أنه بالتأكيد لن يقف أبناء الشعب المكلوم مكتوفي الأيدي، وأنهم لسوف يشعلوا نيران مقاومة المستعمر من المقر الجديد داخل أرض دول الجوار التي تستقبلهم. ودون أدنى شكّ، سوف يجد المستعمر الصهيوني في هذا ذريعة لتوجيه ضربات داخل تلك الأراضي الجديدة. وكما هو مُعتاد، لسوف يعمل الكيان الصهيوني على احتلال أجزاء جديدة من الدول المستضيقة. فالغرض الأساسي للمحتل الصهيوني هو توسعة رقعة أرضه على حساب أراضي دول الجوار للشروع في إنشاء دولته الكبرى.
بيد أنَّه، يجب الأخذ في الحسبان أن أرض فلسطين هي بقعة شابة؛ فأكثر من نصف سكَّانها ممن هم دون السادسة عشرة من العُمر، ما يعني أن تيَّار المقاومة باق، لا يموت. ولأن دولة الكيان المحتلّ تعي ذاك جيدا، فهي ترغب في تصفية القضية الفلسطينية بتهجير أبنائها؛ حتى لا يجد هؤلاء الشباب ما يتفاوضون عليه في المستقبل بعد ضياع الأرض، ومعه ضياع أي فرضة للتفاوض.
«طوفان الأقصى» هو حجر تم إلقاؤه في مياه راكدة منذ أربعة عشر عاما، لم يرغب طوالها المستعمر، حل الدولتين إلى كيانين مستقلين، أو ترك الأهالي تنعم بالراحة داخل بلادهم؛ فما أكثر الاعتداءات غير المبررة على الأبرياء وعلى المصلين المعتكفين داخل المسجد الأقصى. المسألة معقَّدة ومتشابكة وفي كل ثانية تحدث مذبحة بشعة لشعب مكلوم سُلِبَت منه أرضه وراحته تحت سمع وبصر جميع سكَّان العالم. وبشاعة المحتل صارت بارزة بسبب سرعة نشر الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي والتي جعلت سكَّان دول الغرب يندّدون بما يرونه من شنائع تندى لها الجبين. لكن متى سوف تندد حكومات دول الغرب بتلك الجرائم الوحشية؟
كاتبة مصرية
“القدس العربي”