بعد فترة قصيرة على إطلاق رجب طيب اردوغان لسانه والتطاول على إسرائيل، هبطت البورصة في إسطنبول 7 في المئة. في اليوم نفسه، اضطرت البورصة لوقف التعامل مرتين بسبب هبوط الأسعار، قبل استئناف التعاملات مساء. المستثمرون المحليون والأجانب، الذين بدأوا للتو في العودة إلى السوق المالية في تركيا، صوتوا بالأرجل ضد “وقوف حازم من اردوغان خلف حماس”. لا يعتبر تأييد حماس الآن أمراً جيداً للمصالح التجارية. والاقتصاديون في تركيا يحذرون من أن مثل هذه التصريحات تستدعي عقوبات غير رسمية على تركيا.
عندما ينتقد اردوغان إسرائيل ويؤيد حماس فإنه يصعد على مسار تصادم ليس فقط مع إسرائيل، بل أيضاً مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، قال للصحيفة عضو في الغرفة التجارية في إسطنبول. وحسب قوله، فإن المناخ المناهض لتركيا في العالم قد يؤثر أيضاً على فرع السياحة، وسيضر بجهود تركيا من أجل التحول إلى مركز إقليمي لتسويق الغاز، ودهورة الدولة إلى أزمة بالذات في الفترة التي بدأت تتعافى منها.
إلغاء زيارة اردوغان في إسرائيل وتجميد المحادثات حول صفقات اقتصادية (بالأساس في مجال الطاقة)، التي معناها وقف مشروع أنبوب الغاز بين إسرائيل وتركيا ومنها إلى أوروبا، ليست سوى جزء من الثمن الذي قد تدفعه تركيا بسبب موقف اردوغان. يقف على الأجندة أيضاً بيع طائرات اف16 لتركيا، الذي يحتاج مصادقة الكونغرس، الذي لم يكن متحمساً لها حتى قبل الحرب، وهدد بإلغائها رغم قرار بايدن بالمصادقة عليها. السبب الرئيسي لوقف الصفقة، التي تبلغ 20 مليار دولار، كان معارضة تركيا لضم السويد إلى الناتو. ولكن بعد بضعة أشهر من المفاوضات، وافق اردوغان على انضمامها، والإثنين أرسل طلباً للحصول على مصادقة رسمية في البرلمان. ولكن هذه المصادقة الآن لن تكون كافية للكونغرس الأمريكي إزاء رقصة التانغو التي يرقصها مع حماس.
عندما اندلعت الحرب في غزة، عرض اردوغان خدماته لإجراء مفاوضات حول إطلاق سراح المخطوفين. وحسب موقع “مونيتور”، طلب اردوغان من إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس والذي كان يعيش في تركيا، مغادرة إسطنبول مع عائلته بعد مشاهدتهم في التلفاز وهم يصلون ويمدحون عملية حماس. ولكن بعد فترة قصيرة، تحدث اردوغان ووزير الخارجية في تركيا، هاكان فيدان، مع هنية لفحص إمكانية لصفقة إنسانية. ولكن مثلما في حالات سابقة، تبين لاردوغان بأن استضافة أعضاء حماس والالتقاء معهم لا تساعد في إنضاج صفقة.
إدارة المفاوضات مع حماس قامت بها قطر ومصر، اللتين تمتلكان أدوات تأثير وضغط ناجعة أكثر من تركيا. هبط فيدان هذا الأسبوع في أبو ظبي والدوحة، عاصمة قطر، لفحص ما يمكن فعله، لا سيما من أجل المساعدة في إنقاذ المخطوفين غير الإسرائيليين والأمريكيين. أمل الوزير استناداً إلى أن دولته من أول الدول التي أرسلت طائرة مساعدات لسكان غزة إلى جانب هجوم لفظي من اردوغان على إسرائيل، أمل الحصول على موطئ قدم في الخطوات الدبلوماسية أمام حماس.
يعد هذا لاردوغان فيلماً شاهده سابقاً، وأعاده إلى نهاية العام 2008 عشية عملية “الرصاص المصبوب”، حيث استضاف اردوغان رئيس الحكومة إيهود أولمرت لمناقشة إجراء مفاوضات مع بشار الأسد. واقترح اردوغان الاتصال مع الأسد وإجراء مكالمة غير مباشرة بينه وبين أولمرت. الأخير وافق. كانت المحادثة بين اردوغان والأسد بواسطة مترجم، وتم نقل المضمون بشكل فوري لأولمرت الذي كان يجلس في الغرفة. وحسب أقوال مصدر رفيع في تركيا، قال للصحيفة إن اردوغان كان على قناعة بأن أولمرت ليس مجرد حليف، بل صديق مقرب.
في الوقت نفسه، عرف اردوغان بأن الجيش الإسرائيلي ركز قوات على حدود القطاع تمهيدا لعملية “الرصاص المصبوب”. بروحية الصداقة بينهما، طلب من أولمرت السماح له بإقناع حماس بالتوقف عن عملياتها ضد إسرائيل، وربما حتى التوصل إلى اتفاق ومنع تنفيذ العملية. وعد أولمرت بالتفكير بالأمر عند عودته إلى القدس. وعندما تباطأ أولمرت الإجابة، اتصل به اردوغان. ولدهشته وغضبه، تم تغييبه مرتين، وفهم أن أولمرت لا ينوي إشراكه في القرار.
“شعر اردوغان بالتعرض للخيانة من صديق مقرب”، قال المصدر الرفيع نفسه. “اردوغان لا ينسى ولا يغفر”، قال لي في هذا الأسبوع صحافي تركي في إحدى الوسائل الإعلامية الرسمية. “قبل أن يكون أيديولوجياً، هو وطني تركي، وهو قبل أي شيء آخر مدير حسابات حريص”. والآن أرسلت تركيا رسائل لإسرائيل تضمنت طلباً لتأخير – وربما إلغاء – نية شن الهجوم البري. لم يتم تصفية المحادثات هذه المرة، ولكن إجابة إسرائيل كانت حادة وواضحة.
قلق يشمل عدة دول
في حين يعيد اردوغان احتضان “منظمة التحرير”، تقود قطر الاتصالات مع حماس. رافعة الضغط الأساسية لها هي اللجوء الذي تمنحه لجزء من قيادة حماس والمساعدات المالية الضخمة بمئات ملايين الدولارات، التي أرسلتها لهذه المنظمة وللقطاع في العقد الأخير، جزء منها بمصادقة من إسرائيل وبتشجيع منها. في حين تصف إسرائيل حماس بأنها جهة تقع تحت رعاية إيران، فقد قررت إجراء المفاوضات بالتحديد مع قطر.
يبدو أن حماس، خلافاً لـ “الجهاد الإسلامي” المرتبط بحبل سري بإيران، قدرت أن “القناة العربية”، وليس الإيرانية، ربما تخدمها بشكل أفضل. ورأت أيضاً أن فكرة “وحدة الساحات”، التي كان يمكن أن تضمن مشاركة كثيفة من “حزب الله” في المعركة، لا تتحقق بشكل كامل. وربما استنتجت من ذلك شيئاً حول سياسة إيران. المناوشات بين إسرائيل و”حزب الله” غير مسبوقة منذ حرب لبنان الثانية، لكن بشأن حجم القوات التي استخدمتها حماس ضد إسرائيل، فإن “حزب الله” ما زال بعيداً عن تلبية توقعات شريكته في غزة، رغم نجاحه في إخلاء عشرات المستوطنات الإسرائيلية.
تكبدت حماس حتى الآن عشرات القتلى، وأضراراً كثيرة في قواعدها، لكن حسن نصر الله لم يظهر حتى الآن بشكل علني، ولم يلق خطاباً حماسياً يعرض فيه التضحية التي قدمها “حزب الله” من أجل حماس وسكان غزة، ولم يفصل كيف ينوي توسيع وحدة الساحات. ربما يعود سبب صمته لأن “حزب الله” لم يقرر بعد، أو لم يحصل على الإذن الإيراني لتوسيع المعركة. تفسير هذه الخطوة ربما يكون حرباً إقليمية، تكون فيها إيران شريكة مباشرة وهدفاً للهجوم.
في بداية الأسبوع، أشار رئيس حكومة قطر، محمد آل ثاني، إلى إمكانية حدوث اختراقة في الاتصالات مع حماس، التي ستؤدي إلى إطلاق سراح مجموعة أخرى من المخطوفين. ولكن التفاصيل لم تتضح بعد. فمن غير الواضح كم عدد المخطوفين وما جنسياتهم، وبالأساس مقابل ماذا ستطلق حماس سراحهم. الضغط الآن هو من أجل التوصل إلى إطلاق سراح المخطوفين المدنيين، المصابين والأطفال والنساء والشيوخ، مقابل المساعدات الإنسانية للقطاع.
لكن هذه العملية، حتى لو نجحت، لن ترفع عن حماس تهديد الهجوم البري. هنا يكمن الخوف الكبير لدول رئيسية في المنطقة تتعاون مع الإدارة الأمريكية. في اللقاء بينه وبين وزير الخارجية الأمريكي قبل أسبوع، حذر ولي عهد السعودية محمد بن سلمان من انزلاق الحرب إلى دول عربية. الثلاثاء، تحدث بن سلمان مع الرئيس الأمريكي بلهجته متطلبة أكثر؛ فقد طلب بشكل صريح منع القيام بعملية عسكرية في غزة، قد تؤدي إلى قتل جماعي للمدنيين.
لا يرى بن سلمان في ذلك قضية إنسانية فحسب؛ ففي اليوم نفس الذي تحدث فيه مع بايدن، استضاف مؤتمر المستثمرين، الذي تمخض عن تقديرات متشائمة حول احتمالات نجاح حلم 2030، وهو المشروع الرئيسي للسعودية، إذا اندلعت حرب واسعة في الشرق الأوسط. الكثير من المندوبين قالوا في المؤتمر إن “استثمارات ضخمة تحتاج إلى الاستقرار والهدوء”. وإذا تحولت الحرب في غزة إلى مواجهة تشارك فيها عدة دول في المنطقة فستمر فترة طويلة إلى أن يوافق المستثمرون على ضخ أموالهم، حتى في دول مثل السعودية التي هي غير مشاركة بشكل مباشر في الحرب.
السعودية في الحقيقة جمدت المحادثات حول التطبيع مع إسرائيل، لكنها تحافظ على حضور منخفض وخطاب غير هجومي في هذه الأثناء. تتعرض في الشبكات الاجتماعية لانتقاد شديد بسبب ما اعتبر عدم مبالاة تجاه مأساة غزة، ولأنها لا تستخدم ضغطاً أكبر على واشنطن لوقف هجوم إسرائيل. الذي هب للدفاع عنها هو أحد كبار الصحافيين في مصر، عمر أديب، الذي يمتلك شركة اتصالات وهو مقرب من الرئيس السيسي. الثلاثاء، كتب في أحد المنشورات: “لا أحد يمكنه انتقاد موقف السعودية أو التعالي على جهود بن سلمان، من اليوم الأول (للحرب) كان موقف السعودية أفضل بكثير من موقف بعض الدول التي تعرفونها بشكل جيد”.
السعودية شريكة كاملة في قلق مصر من الإملاء الذي فرضته منظمة هما تمقتانها، على المنطقة. الموقع الجغرافي لمصر، وقربها من قطاع غزة والسيطرة على معبر رفح، يضع في يدها القوة للتأثير على حماس. لكن السعودية لا تملك مثل هذه الرافعة؛ فقوتها تستخدمها في واشنطن، ولها بعض عضلات قد تشمل كمية إنتاج النفط.
لكن إلى جانب الحوار الثنائي، فإن السعودية ومصر، وبشكل كبير أيضاً الإمارات وتركيا وقطر، التي لا تشعر بالأخوة فيما بينها، تجد نفسها في تحالف فرضته عليها منظمة تهدد بإشعال دولها، وبالتأكيد إلحاق ضرر اقتصادي وأمني حقيقي بها. السخافة وغير المعقول يصبحان أكبر عندما نتذكر كيف لعبت السعودية في ملعب الكبار وتحدت الولايات المتحدة بطلبها السماح لها بتطوير برنامج نووي مستقل، ومنح اتفاق دفاع مشترك مقابل التطبيع مع إسرائيل، في الوقت الذي تقوم فيه بلعبة تنس طاولة بين واشنطن والصين.
السعودية مضطرة الآن لمواجهة تحالف من المنظمات، واحدة في غزة والأخرى في لبنان. وعليها الأمل بأن تنجح قطر، الدولة التي فرضت عليها المملكة حصاراً خانقاً في الأعوام 2017 – 2021، في النقطة الحالية بإعادة صمام الأمان للعبوة الناسفة التي هي على وشك الانفجار في غزة.
هآرتس 27/10/2023
“القدس العربي”