على أميركا أن تُقنِع حليفتها بالتراجع عن حافة الهاوية
في الصباح الباكر من يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر، أصدر الجيش الإسرائيلي تحذيرًا لـ (1,2) مليون فلسطيني في شمال غزة: “عليكم الإخلاء في غضون (24) ساعة، قبل غزو برّي محتمل”. لمثل هذا الهجوم الإسرائيلي هدفٌ معلن، يتمثل في إنهاء (حماس) كمنظمة، ردًا على هجومها المفاجئ الصادم في 7 تشرين الأول/ أكتوبر على جنوب إسرائيل، حيث قتلت أكثر من (1,000) مواطن إسرائيلي، واحتجزت أكثر من مئة رهينة.
بدت الحملة البرية الإسرائيلية حتميّةً، منذ اللحظة التي اخترقت فيها حماس النطاق الأمني المحيط بقطاع غزة. وقد أيّدت واشنطن الخطط الإسرائيلية كلّها، ولا سيما الامتناع عن الحث على ضبط النفس. في بيئة سياسية محمومة، كانت أعلى الأصوات في الولايات المتحدة هي تلك التي تحث على اتخاذ تدابير متطرفة ضدّ حماس. وفي بعض الحالات، دعا المعلّقون إلى القيام بعمل عسكري ضد إيران، بسبب رعايتها المزعومة لعملية حماس.
لكن هذا الوقت بالتحديد هو الوقت الذي يجب أن تكون فيه واشنطن أكثر هدوءًا وأقلّ غضبًا، لكي تُنقذ إسرائيل من نفسِها. سيكون الغزو الوشيك لغزة كارثة إنسانية وأخلاقية واستراتيجية. فهو لن يضرّ بأمن إسرائيل على المدى الطويل ويكبّد الفلسطينيين تكاليف بشرية لا يمكن فهمها فحسب، بل سيهدد أيضًا المصالح الأميركية الأساسية في الشرق الأوسط وأوكرانيا، ويؤثر في منافسة واشنطن مع الصين على ترتيب المحيطَين الهندي والهادئ. وحدها إدارة بايدن -التي توجّه النفوذ الفريد للولايات المتحدة والدعم الوثيق الواضح من البيت الأبيض لأمن إسرائيل- يمكنها الآن منع إسرائيل من ارتكاب خطأ كارثي. والآن بعد أن أعلنت واشنطن تعاطفها مع إسرائيل، عليها أن تركّز على مطالبة حليفتها بالامتثال الكامل لقوانين الحرب. ويجب أن تصرّ على أن تجد إسرائيل سبلًا في المعركة على حماس، بحيث لا تنطوي على تشريد المدنيين الفلسطينيين الأبرياء وقتلهم الجماعي.
حالة غير مستقرة
قلبَ هجوم حماس مجموعة المسلّمات التي حددت الوضع الراهن بين إسرائيل وغزة منذ ما يقرب من عقدين من الزمن. في عام 2005، انسحبت إسرائيل من جانب واحد من قطاع غزة، لكنها لم تُنهِ احتلالها الفعلي. واحتفظت بالسيطرة الكاملة على حدود غزة ومجالها الجوي، واستمرت في ممارسة رقابة مشددة (بالتعاون الوثيق مع مصر) من خارج المحيط الأمني، على حركة سكان غزة، وعلى البضائع والكهرباء وأموالها. من الجانب الآخر، تولت حماس السلطة في عام 2006، بعد فوزها في الانتخابات التشريعية، وعززت قبضتها في عام 2007 بعد فشل جهود دعمتها الولايات المتحدة لاستبدالها بالسلطة الفلسطينية.
منذ عام 2007، حافظت إسرائيل وحماس على ترتيب قلق. حيث تُواصل إسرائيل حصارًا خانقًا على غزة، تقيّد من خلاله بشدة اقتصاد القطاع وتفرض تكاليف بشرية كبيرة، وبالمقابل تمكّنت حماس من تحويل جميع الأنشطة الاقتصادية إلى الأنفاق والأسواق السوداء التي تسيطر عليها. خلال اندلاع الصراع العرضي -في 2008 و2014 ومرة أخرى في عام 2021- قصفت إسرائيل على نطاق واسع المراكز الحضرية المكتظة بالسكان في غزة، ودمّرت البنية التحتية، وقتلت الآلاف من المدنيين، حيث أضعفت قدرات حماس العسكرية، وحددت الثمن الذي يجب دفعه مقابل الاستفزازات. غير أن كل هذا لم يُضعف قبضة حماس على السلطة.
توصّل القادة الإسرائيليون إلى الاعتقاد بأن هذا التوازن يمكن أن يستمرّ إلى أجل غير مسمى. إذ اعتقدوا أن حماس قد تعلمت دروسًا من المغامرات السابقة، من خلال الردود العسكرية الإسرائيلية غير المتناسبة بشدة، وأن حماس راضية الآن عن الحفاظ على حكمها في غزة، وإن كان ذلك يعني السيطرة على الأعمال الاستفزازية للفصائل المسلحة الأصغر، مثل الجهاد الإسلامي الفلسطيني. خففت الصعوبات التي واجهها جيش الدفاع الإسرائيلي في الهجوم البري القصير في عام 2014 من طموحاته في إجراء مزيد من العمليات. ورفض المسؤولون الإسرائيليون الشكاوى الدائمة بخصوص الآثار الإنسانية للحصار. وبدلًا من ذلك، كانت البلاد راضية عن إبقاء غزة في حالة من عدم الاكتراث، مع تسريع تحركاتها الاستفزازية المتزايدة لتوسيع مستوطناتها وسيطرتها على الضفة الغربية.
كان لدى حماس أفكار أخرى. على الرغم من أن كثيرًا من المحللين قد نسبوا استراتيجيتها المتغيرة إلى النفوذ الإيراني، فإن حماس كان لديها أسبابها الخاصة لتغيير سلوكها ومهاجمة إسرائيل. انتهت مناورة/ مقامرة عام 2018 لتحدّي الحصار، من خلال التعبئة الجماهيرية اللاعنفية (المعروفة باسم “مسيرة العودة الكبرى”)، بسفك دماء هائل، عندما فتح الجنود الإسرائيليون النار على المتظاهرين. في عام 2021، على النقيض من ذلك، اعتقد قادة حماس أنهم حققوا مكاسب سياسية كبيرة مع الجمهور الفلسطيني الأوسع، من خلال إطلاق الصواريخ على إسرائيل، أثناء الاشتباكات العنيفة التي وقعت في القدس بسبب مصادرة إسرائيل لمنازل الفلسطينيين واستفزازات القادة الإسرائيليين في مجمع المسجد الأقصى، أحد أقدس المواقع الإسلامية، الذي يريد بعض المتطرفين الإسرائيليين هدمه لبناء معبد يهودي.
في الآونة الأخيرة، أدى التصعيد المطّرد للاستيلاء الإسرائيلي على الأراضي، وهجمات المستوطنين المدعومة من الجيش على الفلسطينيين في الضفة الغربية، إلى خلق جمهور غاضب ومعبّأ، وبدت الولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية المدعومة من إسرائيل غير قادرتين وغير راغبتين في معالجته. وربما بدت التحركات الأميركية العلنية للغاية للتوسط في اتفاق تطبيع إسرائيلي سعودي وكأنها إغلاق للنافذة أمام “حماس” للتصرف بشكل حاسم، قبل أن تنقلب الظروف الإقليمية ضدّها بلا رحمة. وربما دفعت الانتفاضة الإسرائيلية ضد الإصلاحات القضائية التي أجراها بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، حماس إلى توقّع أن خصمها منقسم ومشتت.
إلى أيّ مدًى حفّزت إيران توقيت أو طبيعة الهجوم المفاجئ؟ هذا غير واضح، لكنّ المؤكد أن إيران زادت من دعمها لـ “حماس” في الأعوام الأخيرة، وسعَت إلى تنسيق أنشطة ميليشياتها الشيعية عبر “محور المقاومة”، وغيرها من الجهات الفاعلة المعارضة للنظام الإقليمي المدعوم من الولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن سيكون من الخطأ الفادح تجاهل السياق السياسي المحلي الأوسع الذي تحرّكت فيه “حماس”.
نقطة التحوّل
ردّت إسرائيل في البداية على هجوم حماس بحملة قصف أكثر كثافة من المعتاد، إلى جانب حصار أشد كثافة، حيث قطعت الطعام والماء والطاقة. وحشدت احتياطاتها العسكرية، واستدعت حوالى (300) ألف جندي إلى الحدود، استعدادًا لحملة برية وشيكة. ودعت المدنيين في غزة إلى مغادرة الشمال في غضون (24) ساعة. هذا مطلب مستحيل، إذ ليس لدى سكان غزة مكان يذهبون إليه؛ فالطرق السريعة مدمرة، والبنية التحتية تحت الأنقاض، ولم يتبق سوى القليل من الكهرباء أو الطاقة، والمشافي ومرافق الإغاثة القليلة كلها في المنطقة الشمالية المستهدفة. حتى لو أراد سكان غزة مغادرة القطاع، فإن معبر رفح مع مصر يتعرض للقصف، ولم يُظهر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي سوى القليل من الدلالات على تقديم ملجأ ودّي.
يدرك سكان غزة هذه الحقائق. إنهم لا يرون الدعوة إلى الإخلاء بادرة إنسانية. ويعتقدون أن نية إسرائيل هي تنفيذ نكبة أخرى، أو كارثة: التهجير القسري للفلسطينيين من إسرائيل خلال حرب عام 1948. إنهم لا يعتقدون -ولا ينبغي لهم أن يعتقدوا- أنه سيسمَح لهم بالعودة إلى غزة بعد المعركة. هذا هو السبب في أن دفع إدارة بايدن لإنشاء ممر إنساني للسماح للمدنيين في غزة بالفرار من القتال فكرة سيئة بشكل فريد. إذا كان الممر الإنساني سيحقق شيئًا، فإنه سيكون تسريع إخلاء سكان غزة، وخلق موجة جديدة من اللاجئين الدائمين. ومن الواضح إلى حد ما أنّه سيقدم للمتطرفين اليمينيين في حكومة نتنياهو خريطة طريق واضحة، لفعل الشيء نفسه في القدس والضفة الغربية.
يأتي هذا الرد الإسرائيلي على هجوم حماس من الغضب العام، الرد الذي أثار حتى الآن استحسانًا سياسيًا من القادة في الداخل وحول العالم. ولكن هناك قلة من الأدلة على أن أيًا من هؤلاء السياسيين قد فكّر بجدية في الآثار المحتملة للحرب في غزّة أو في الضفة الغربية أو في المنطقة الأوسع. لا توجد أي علامة على صراع جدي يحدد نهاية اللعبة في غزة، مع بدء القتال. أو لنقل لا توجد أي علامة على التفكير في الآثار الأخلاقية والقانونية المترتبة على العقاب الجماعي للمدنيين في غزة والدمار الإنساني الحتمي القادم.
سيكون غزو غزة نفسه مصحوبًا بعدم اليقين. ومن المؤكد أن “حماس” توقعت مثل هذا الرد الإسرائيلي، وهي مستعدة جيّدًا للقتال لفترة طويلة ضمن المدن، ضد القوات الإسرائيلية المتقدمة. ومن المرجح أنها تأمل في إلحاق خسائر كبيرة بالجيش الذي لم يشارك في مثل هذا القتال منذ أعوام عديدة (تقتصر التجارب العسكرية الإسرائيلية الأخيرة على عمليات أحادية الجانب إلى حد كبير، مثل الهجوم الذي وقع في تموز/ يوليو على مخيم جنين للاجئين في الضفة الغربية). وقد أشارت حماس بالفعل إلى خطط مروعة لاستخدام رهائنها كرادع ضد الأعمال الإسرائيلية. يمكن لإسرائيل أن تحقق نصرًا سريعًا، ولكن يبدو أنه غير محتمل ومستبعد، وستسبب التحركات التي قد تسرّع حملة البلاد، مثل قصف المدن وإخلاء الشمال من سكانها، تكاليف كبيرة على سمعة إسرائيل. كلّما طال أمد الحرب، ستغمر العالم صور القتلى والجرحى من الإسرائيليين والفلسطينيين، وزادت الفرص المتاحة لأحداث مدمرة غير متوقعة.
حتى إنْ نجحت إسرائيل في إطاحة حماس، فإنها ستواجه التحدي المتمثل في حكم الأراضي التي تخلت عنها في عام 2005 ثم حاصرتها وقصفتها بلا رحمة في الأعوام الفاصلة. لن يرحّب شباب غزة بالجيش الإسرائيلي كمحررين. لن تقدّم لهم لا الزهور ولا الحلوى. إن أفضل السيناريوهات بالنسبة لإسرائيل هو شن حملة طويلة الأمد لمكافحة التمرد في بيئة معادية بشكل فريد، حيث لديها تاريخ من الفشل، وحيث لم يعد لدى الناس ما يخسرونه.
وفي أسوأ السيناريوهات، لن يبقى الصراع محصورًا في غزة. ولسوء الحظ، من المحتمل حدوث مثل هذا التوسع. إن الغزو المطوّل لغزة سيولد ضغوطًا هائلة في الضفة الغربية، قد تكون السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس غير قادرة على احتوائها، أو ربما غير راغبة في احتوائها. وخلال العام الماضي، أدى التعدي الإسرائيلي المستمر على أراضي الضفة الغربية، والاستفزازات العنيفة التي قام بها المستوطنون، إلى إيصال غضب الفلسطينيين وإحباطهم لدرجة الغليان. يمكن لغزو غزة أن يدفع فلسطينيي الضفة الغربية إلى حافة الهاوية.
على الرغم من الغضب الإسرائيلي الساحق من نتنياهو، بسبب الفشل الاستراتيجي غير المسبوق تقريبًا لحكومته، ساعد زعيم المعارضة بيني غانتس في حل مشاكل نتنياهو السياسية الرئيسة من دون أي تكلفة واضحة، من خلال الانضمام إلى حكومة حرب الوحدة الوطنية من دون إبعاد المتطرفين اليمينيين أمثال إيتمار بن غفير وبتسلائيل سموتريتش. هذا القرار مهمّ، لأنه يشير إلى أن الاستفزازات في الضفة الغربية والقدس، التي قادها بن غفير وسموتريتش في العام الماضي، ستستمر فقط في هذه البيئة غير المستقرة. في الواقع، يمكن أن تتسارع الحركة الاستيطانية، حيث تسعى إلى الاستفادة من هذه اللحظة، لمحاولة ضم بعض أو كل الضفة الغربية وتهجير سكانها الفلسطينيين. لا شيء يمكن أن يكون أكثر خطورة.
إن الصراع الخطير في الضفة الغربية -سواء في شكل انتفاضة جديدة أو استيلاء المستوطنين الإسرائيليين على الأراضي- إلى جانب الدمار الذي لحق بغزة، سيكون له تداعيات هائلة، وسيكشف الحقيقةَ القاتمة لواقع الدولة الواحدة في إسرائيل إلى درجة لا يستطيع فيها حتى آخر المتعصبين إنكار ذلك. يمكن أن يؤدي الصراع إلى تهجير قسري فلسطيني آخر، أو موجة جديدة من اللاجئين الذين يلقون بالأردن ولبنان المثقلين بالأعباء بشكل خطير بالفعل، أو الذين تحتويهم مصر قسرًا في جيوب في شبه جزيرة سيناء.
خارج حدود المقبول
القادة العرب واقعيون بطبيعتهم، وهم منشغلون ببقائهم ومصالحهم الوطنية الخاصة. لا أحد يتوقع منهم أن يضحّوا من أجل فلسطين، وهو افتراض دفع السياسة الأميركية والإسرائيلية، في عهد كل من دونالد ترامب (الرئيس السابق)، وجو بايدن (الرئيس الحالي). ولكن هناك حدودًا لقدرتهم على الوقوف في وجه الجمهور الذي يتم تعبئته بشراسة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بفلسطين. قد تقوم المملكة العربية السعودية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، هذا الهوس الغريب لإدارة بايدن، عندما تكون هناك تكاليف سياسية قليلة للقيام بذلك. ومن غير المرجح أن تفعل ذلك، عندما يتعرض الجمهور العربي لرؤية صور مروّعة من فلسطين.
في الأعوام الماضية، سمح القادة العرب بشكل روتيني بالاحتجاجات المناهضة لإسرائيل كوسيلة للتنفيس عن الزخم، وتحويل الغضب الشعبي نحو عدو خارجي، لتجنب انتقاد سجلاتهم الموحشة. ومن المرجح أن يفعلوا ذلك مرة أخرى، وهو ما يدفع المتشائمين والساخطين إلى التلويح بالمسيرات الجماهيرية ومقالات الرأي الغاضبة. لكن الانتفاضات العربية في عام 2011 أثبتت بشكل قاطع مدى سهولة وسرعة تصاعد الاحتجاجات من مسألة محلية واحتوائها إلى موجة إقليمية قادرة على إطاحة الأنظمة الاستبدادية التي حكمت لفترة طويلة. لن يحتاج القادة العرب إلى تذكيرهم بأن السماح للمواطنين بالنزول إلى الشوارع بأعداد هائلة يهدد سلطتهم. لن يرغبوا في أن ينظَر إليهم على أنهم يقفون إلى جانب إسرائيل.
إن ترددهم، في هذا المناخ، في التقرب من إسرائيل ليس مجرد مسألة بقاء النظام. تسعى الأنظمة العربية إلى تحقيق مصالحها عبر ساحات متعددة، إقليميًا وعالميًا، وكذلك في الداخل. يمكن للقادة الطموحين الذين يسعون إلى توسيع نفوذهم، وادعاء قيادة العالم العربي قراءة الرياح السائدة. لقد كشفت الأعوام القليلة الماضية بالفعل عن مدى استعداد القوى الإقليمية مثل المملكة العربية السعودية وتركيا لتحدي الولايات المتحدة، بخصوص قضاياها الأكثر أهمية: التحوط من غزو روسيا لأوكرانيا، والحفاظ على أسعار النفط مرتفعة، وبناء علاقات أقوى مع الصين. وتشير هذه القرارات إلى أنه لا ينبغي على واشنطن أن تأخذ ولاءاتهم المستمرة كأمر مسلم به، خاصة إذا كان ينظَر إلى المسؤولين الأميركيين على أنهم يدعمون بشكل لا لبس فيه الأعمال الإسرائيلية المتطرفة في فلسطين.
إن التباعد العربي بعيد كل البعد عن التحوّل الإقليمي الوحيد الذي تخاطر به الولايات المتحدة، إذا استمرت في هذا المسار. وهو أبعد ما يكون عن التحول الأكثر إثارة للخوف: يمكن أيضًا أن ينجرّ “حزب الله” بسهولة إلى الحرب. وحتى الآن، قام الحزب بمعايرة رده بعناية لتجنب الاستفزاز. لكن غزو غزة قد يكون خطًا أحمر، سيجبر حزب الله على التحرك. ومن شبه المؤكد أن التصعيد في الضفة الغربية والقدس سيكون كذلك. وقد سعت الولايات المتحدة وإسرائيل إلى ردع “حزب الله” عن الدخول في القتال، لكن مثل هذه التهديدات لن تذهب بعيدًا إلا إذا استمر الجيش الإسرائيلي في التصعيد. وإذا دخل حزب الله المعركة بترسانته الهائلة من الصواريخ، فستواجه إسرائيل أول حرب على جبهتين منذ نصف قرن. لن يكون مثل هذا الوضع سيئًا لإسرائيل وحدها. وليس من الواضح مصير لبنان، الذي تدهور بالفعل بسبب انفجار المرفأ العام الماضي والانهيار الاقتصادي، هل يمكن أن ينجو من حملة قصف انتقامية إسرائيلية أخرى.
يبدو أن بعض السياسيين والنقاد الأميركيين والإسرائيليين يرحبون بحرب أوسع. وعلى وجه الخصوص، كانوا يدعون إلى شن هجوم على إيران. وعلى الرغم من أن معظم أولئك الذين يدعون إلى قصف إيران قد اتخذوا هذا الموقف منذ أعوام، فإن المزاعم عن دور إيراني في هجوم حماس يمكن أن توسع تحالف أولئك الذين يرغبون في بدء صراع مع طهران.
لكن توسيع الحرب إلى إيران سيشكل مخاطر هائلة، ليس فقط في صيغة انتقام إيراني ضد إسرائيل، ولكن أيضًا في الهجمات ضد شحن النفط في الخليج والتصعيد المحتمل عبر العراق واليمن والجبهات الأخرى التي يسيطر فيها حلفاء إيران. وقد أدى الاعتراف بهذه المخاطر حتى الآن إلى تقييد حتى أكثر صقور إيران حماسًا، كما هو الحال عندما اختار ترامب عدم الانتقام من الهجوم على مصافي بقيق في السعودية عام 2019. وحتى اليوم، يشير التدفق المستمر للتسريبات من المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين الذين يقللون من دور إيران، إلى وجود مصلحة في تجنب التصعيد. ولكن على الرغم من تلك الجهود، فإن ديناميات الحرب التي طال أمدها لا يمكن التنبؤ بها على الإطلاق. نادرًا ما كان العالم أقرب إلى الكارثة مما هو عليه اليوم.
الجرائم هي الجرائم
أولئك الذين يحثّون إسرائيل على غزو غزة بأهداف متطرفة إنما يدفعون حليفتهم إلى كارثة استراتيجية وسياسية، حيث ستكون التكاليف المحتملة مرتفعةً بشكل غير عادي، من حيث عدد الوفيات الإسرائيلية والفلسطينية، ومن حيث احتمال الوقوع في مستنقع مدة طويلة، ومن حيث النزوح الجماعي للفلسطينيين. وإن خطر انتشار الصراع كبير جدًا بشكل مثير للقلق، لا سيما في الضفة الغربية ولبنان، ومن المحتمل أن يكون أوسع بكثير. والمكاسب المحتملة -غير تلبية مطالب الانتقام- منخفضة بشكل ملحوظ. منذ الغزو الأميركي للعراق، لم يكن هناك مثل هذا الوضوح المسبق حول الفشل الذريع المقبل.
القضايا الأخلاقية أيضًا لم تكن بهذا القدر من الوضوح. ليس هناك شك في أن حماس ارتكبت جرائم حرب خطيرة في هجماتها الوحشية على المواطنين الإسرائيليين، وتجب محاسبتها. ولكن ليس هناك شك أيضًا في أن العقاب الجماعي لغزة، من خلال الحصار والقصف والتشريد القسري لسكانها، يمثل جرائم حرب خطيرة. وهنا أيضًا ينبغي أن تكون مساءلة، أو الأفضل من ذلك احترام القانون الدولي.
على الرغم من أن هذه القواعد قد لا تزعج القادة الإسرائيليين، فإنها تشكّل تحديًا استراتيجيًا كبيرًا للولايات المتحدة، من حيث أولوياتها العليا الأخرى. من الصعب التوفيق بين تعزيز الولايات المتحدة للمعايير الدولية وقوانين الحرب دفاعًا عن أوكرانيا من الغزو الروسي الوحشي وتجاهلها المتعجرف لتلك المعايير في غزّة. ستلاحظ ذلك دول وشعوب الجنوب العالمي، بعيدًا عن الشرق الأوسط.
لقد أوضحت إدارة بايدن أنها تدعم إسرائيل في ردّها على هجوم حماس. ولكن هذا الوقت هو الوقت المناسب لها لاستخدام قوّة تلك العلاقة، لمنع إسرائيل من خلق كارثة ملحوظة. يشجّع نهج واشنطن الحالي إسرائيل على شنّ حرب خاطئة جدًا، من خلال وعودها بالحماية من عواقبها، وردع الآخرين عن دخول المعركة، وعرقلة أي جهود لفرض المساءلة من خلال القانون الدولي. لكن الولايات المتحدة تفعل ذلك على حساب مكانتها العالمية ومصالحها الإقليمية الخاصة. إذا اتخذ الغزو الإسرائيلي لغزة مساره الأكثر احتمالًا، بكل مذابحه وتصعيده، فإن إدارة بايدن ستندم على خياراتها.
*- الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي المركز
اسم المقال الأصلي | An Invasion of Gaza Would Be a Disaster for Israel |
الكاتب | مارك لينش، Marc Lynch |
مكان النشر وتاريخه | شؤون خارجية، FOREIGN AFFAIRS، 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 |
عدد الكلمات | 2914 |
ترجمة | وحدة الترجمة/ أحمد عيشة |
“حرمون”