الدكتور عوفر غروزبيرد، الذي عمل لنصف سنة كاختصاصي نفسي في قسم الأبحاث في “أمان” (الاستخبارات العسكرية)، وجه انتقاداً شديداً للصورة الاجتماعية – الثقافية والعاطفية للقسم، وطبيعة الاستعداد لدى رجاله فيما يتعلق بنماذج سلوك حماس. أحد الادعاءات الرئيسية في هذا السياق يشير إلى ما يصفه كتجاهل الاستخبارات للجوانب النفسية بين الثقافات، لتوضيح الفرق في التفكير بين الحضارة الغربية والعالم العربي، والإسهام في تحسين والتدقيق في التشخيص والتنبؤ بنوايا التنظيمات الإرهابية الإسلامية.
حسب قوله، فإن معظم الأعضاء في قسم الأبحاث في الاستخبارات من الشباب الذين لديهم خلفية غربية عصرية، فيها أولوية “للتفكير التحليلي”. ويفترضون بالخطأ أن “العدو يفكر مثلنا، وينزلون عليه طبيعة تفكيرنا”. أي كمن يفعل مثلهم، على أساس مقاربات عقلانية وتحليلات منطقية محسوبة، في حين أن الأمر يتعلق بعالم يسير حسب شيفرات مختلفة للثقافة، مثل “الشرف العربي المعروف”، الذي هو بعيد جداً عن العقلانية والتفكير التحليلي. هذا الفهم الخاطئ، حسب قوله، هو أحد أسباب فشل الاستخبارات الذريع فيما يتعلق بالخطة القاتلة لحماس.
معروف أنه لا يوجد تجاهل قيمة ووزن البعد في الاختلافات بين المجموعات الإنسانية. ولكن تكمن إحدى المشكلات التي تتعلق بادعاء غروزبيرد حول “التداخل الثقافي” في أن مذبحة 7 أكتوبر كان لها أهداف يجب فحصها بأدوات من مجال السياسة العقلانية. في حين أن نتنياهو نجح خلال الـ 15 سنة الأخيرة في زج القضية الفلسطينية إلى زاوية الساحة الدولية، سعت حماس من خلال الوسائل القاتلة إلى لفت انتباه العالم للقضية. وتفاخر نتنياهو أنه تمكن من تجاوز القضية الفلسطينية في الطريق إلى التطبيع مع السعودية، في حين حاولت حماس الإظهار بأنه واهم. فقد أرادت حماس الإثبات بأنها اللاعب الأهم في الشرق الأوسط الذي بدونه لن يمكن القيام بأي تحرك إقليمي. ويمكن تقديم ذلك كتعبير عن السعي لـ “الشرف العربي”، لكن الطموح للقوة من هذا النوع له نظراء في الغرب العقلاني.
وثمة مشكلة أخرى في ادعاء غروزبيرد تكمن في أنه إذا حكمنا حسب التقارير الأخيرة حول طبيعة الإخفاق في جمع المعلومات في “أمان”، فإن رجالها كانوا أكثر إصغاء للفرضيات في علم النفس بين الثقافات، التي يأسف غروزبيرد على رفضها. مثلاً، مقال عاموس هرئيل في “هآرتس” في 27/11، عن ضابطة الصف ف. في “أمان” التي حذرت من نية حماس تنفيذ مذبحة في غلاف غزة، ونقلت لقادتها بأن رجال حماس أنهوا تدريبهم “أنهينا قتل كل سكان الكيبوتس”. هذا التحذير قوبل برفض من قبل ضابط كبير في الاستخبارات الذي أثنى في الحقيقة على عمل ضابطة الصف، ولكنه أضاف: “يبدو لي خيالياً”. ضابطة الصف صممت على موقفها وانضم إليها ضابط صف آخر، المسؤول عنها، الذي قال إنه حسب تجربته، دار الحديث عن مناورة حقيقية. ولكن كل ذلك كان عبثياً، فالقيادة العليا في الاستخبارات العسكرية “أمان” لم تتعامل بجدية مع التحذيرات.
يصعب التحرر من الانطباع (الذي إلى جانب المفهوم الذي تقود جذوره إلى المستوى السياسي والذي يقول إن “حماس خائفة”) بأن رفض القيادة العليا في “أمان” تفسير مناورات حماس وتدريباتها استعداداً لهجوم حقيقي نبع من الافتراضات المسبقة لنفسية تداخل ثقافي استشراقي. وحسب هذه الافتراضات، تبدو احتمالية قيام مجموعة عرب بدائيين وبعيدين عن أي تفكير عقلاني وتحليلي بعملية منظمة ومخطط لها جيداً، احتمالية تساوي صفراً. بكلمات أخرى، وبإعادة صياغة ما قال المحامي دوف فايسغلاس من فترة الانفصال، “لو كان جيراننا، بدلاً من الفلسطينيين، فنلنديين أو أي شعب أوروبي آخر “عقلاني” فليس من الخطأ الافتراض بأن مستوى الإصغاء إلى التحذيرات الاستخبارية من هذا النوع التي وفرتها ضابطة الصف ف، أكبر بعشرة أضعاف.
7 تشرين الأول جعل الكثير من أعضاء الوسط – يسار يمرون في عملية “استيقاظ”. ثمة تعبير عن هذه العملية في الخطاب الفكري يظهر أن جزءاً من “المستيقظين” لهم كيس مريح للكمات. المرحوم إدوارد سعيد، فلسطيني الأصل، الباحث في الأدب الأمريكي والثقافة الأمريكية ومؤلف كتاب “الاستشراق” (1978) الذي هو الكتاب التأسيسي في العلوم الإنسانية والمجتمع في العصر الحديث المتأخر، وصف في هذا الكتاب كيف أن الخطاب الثقافي الغربي الحديث فهم صورة المشرق العربي المسلم كبربري وجاهل و”حسي” من خلال عرضه نقيضاً للهوية الغربية “المتنورة والعقلانية”. هذا ليس المكان المناسب للتعليق على العمى المؤسف الذي يعاني منه بعض المؤيدين الحاليين لـ “استشراق” إدوارد سعيد، الذي ما زال سوء استخدامه يستحق الانتقاد الحاد. ولكن من المؤكد أن إعادة تبني الصورة النمطية للشرق “غير العقلاني” كوسيلة للتعامل مع الوحش الحمساوي، القاسي والبارد، ليست أسلوباً يوصى به.
الفشل الاستخباري الذي أدى إلى كارثة 7 تشرين الأول لم ينبع من الافتقار إلى الصورة النمطية الاستشراقية لدى الطرف الإسرائيلي، بل من استخدامها الزائد.
ديمتري شومسكي
هآرتس 13/12/2023
“القدس العربي”