أنتج رد إسرائيل المدمِّر على الهجوم الصادم الذي شنته حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر) كارثة إنسانية.
خلال أول 100 يوم من الحرب وحدها، أسقطت إسرائيل على قطاع غزة ما يعادل، بالكيلوطن، ثلاث قنابل نووية، وأسفر القصف عن مقتل حوالي 24.000 فلسطيني (حتى كتابة هذه السطور)، من بينهم أكثر من 10.000 طفل.
كما جُرح عشرات الآلاف الآخرين؛ وتم تدمير أو إتلاف 70 بالمائة من منازل غزة؛ وتشريد 1.9 مليون شخص -حوالي 85 في المائة من سكان القطاع.
وبحلول تلك المرحلة، كان ما يقدر بنحو 400.000 من سكان غزة معرضين لخطر المجاعة، وفقًا لبيانات الأمم المتحدة، وكانت الأمراض المعدية تنتشر بينهم بسرعة.
وخلال الفترة نفسها، قُتل مئات الفلسطينيين في الضفة الغربية على أيدي المستوطنين الإسرائيليين أو القوات الإسرائيلية، واعتُقل أكثر من 3.000 فلسطيني، الكثيرون منهم من دون أي تهمة.منذ البداية تقريبًا، كان من الواضح أن إسرائيل لم تكن قد حددت نهاية لحربها في غزة، مما جعل الولايات المتحدة تعود إلى استخدام صيغة مألوفة.
في 29 تشرين الأول (أكتوبر)، تمامًا عندما كان الغزو البري الإسرائيلي للقطاع قد بدأ للتو، قال الرئيس الأميركي جو بايدن: “يجب أن تكون هناك رؤية لما سيأتي تاليًا.
ومن وجهة نظرنا، يجب أن يكون ذلك حل دولتين”. وبعد ثلاثة أسابيع، بعد الدمار الاستثنائي الذي لحق بشمال غزة، قال الرئيس الأميركي مرة أخرى: “لا أعتقد أن هذا سينتهي في نهاية المطاف إلى أن يكون هناك حل دولتين”.
وفي 9 كانون الثاني (يناير)، بعد أكثر من ثلاثة أشهر من بدء الحرب، كرر وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، هذه اللازمة مرة أخرى، وقال للحكومة الإسرائيلية إن الحل الدائم “لا يمكن أن يأتي إلا من خلال نهج إقليمي يتضمن طريقًا إلى إقامة دولة فلسطينية”.
ربما تنطلق هذه الدعوات إلى إحياء حل الدولتين من نوايا حسنة. على مدى سنوات، كان حل الدولتين هو الهدف المعلن للدبلوماسية التي تقودها الولايات المتحدة، وما يزال يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه الترتيب الوحيد الذي يمكن أن يلبي بشكل معقول التطلعات الوطنية لشعبين يعيشان في أرض واحدة.
كما أن إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل هو أيضًا المطلب الرئيسي لمعظم الحكومات العربية والغربية، فضلاً عن الأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى. ولذلك عاد المسؤولون الأميركيون إلى الخطاب والمفاهيم التي سادت في العقود السابقة بغية العثور على جانب مشرق ما في المذبحة.
ومع الفظائع التي لا توصف لهجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) والحرب المستمرة على غزة التي توضح أن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار، يجادل هؤلاء المسؤولون بأن هناك الآن نافذة لتحقيق تسوية أكبر: تستطيع واشنطن أن تدفع الإسرائيليين والفلسطينيين إلى تبني الهدف بعيد المنال المتمثل في وجود دولتين تتعايشان بسلام جنبًا إلى جنب، بينما يتم في الوقت نفسه ضمان التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي.لكن فكرة خروج دولة فلسطينية من تحت أنقاض غزة ليس لها أساس في الواقع. قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) بوقت طويل، كان من الواضح أن العناصر الأساسية اللازمة لحل الدولتين لم تعد موجودة. فقد انتخبت إسرائيل حكومة يمينية تضم مسؤولين يعارضون علنًا حل الدولتين.
وأصبحت القيادة الفلسطينية المعترف بها لدى الغرب -السلطة الفلسطينية- لا تحظى بشعبية كبيرة بين الفلسطينيين. ونمت المستوطنات الإسرائيلية إلى الحد الذي أصبح فيه إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة ومتصلة الأراضي شبه مستحيل.
وعلى مدى ما يقرب من ربع قرن، لم تكن هناك أيضًا أي مفاوضات إسرائيلية فلسطينية جادة، ولم تؤيد أي دائرة انتخابية رئيسية في السياسة الإسرائيلية استئنافها.
ولم يؤد هجوم حماس العنيف على إسرائيل ومحو إسرائيل لغزة بعد أشهر إلا إلى تفاقم هذه الاتجاهات وتسريعها.إن التأثير الرئيسي لمعاودة الحديث مرة أخرى عن حل الدولتين هو إخفاء واقع الدولة الواحدة الذي يكاد يكون من المؤكد أنه سيصبح أكثر رسوخًا في أعقاب الحرب. سيكون من الجيد أن يتمكن الإسرائيليون والفلسطينيون من التفاوض على تقسيم سلمي للأرض والناس إلى دولتين ذاتي سيادة. لكنهم لا يستطيعون.
في تصريحات علنية متكررة خلال كانون الثاني (يناير)، لم يكتف رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بإعلان أنه يعارض قيام دولة فلسطينية فحسب، لكنّه أعلن أيضًا أنه سيستمر، على حد تعبيره، في إدامة “سيطرة أمنية إسرائيلية كاملة على جميع الأراضي الواقعة غرب (نهر) الأردن” -الأراضي التي تشمل القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة.
وبعبارة أخرى، يبدو من المرجح أن تستمر إسرائيل في حكم ملايين الفلسطينيين غير المواطنين من خلال هيكل حكم شبيه بالفصل العنصري يُحرم فيه هؤلاء الفلسطينيون من حقوقهم الكاملة إلى الأبد.يتحمل السياسيون الإسرائيليون معظم المسؤولية عن هذا الواقع القاتم كما تطور على مدى عقود، ساعدهم في ذلك القادة الفلسطينيون الضعفاء والحكومات العربية غير المبالية. ولكن لا يوجد طرف خارجي يتقاسم اللوم أكثر من الولايات المتحدة، التي مكّنت ودافعت عن الحكومة الأكثر يمينية وتطرفًا في تاريخ إسرائيل.
لا يمكن لإدارة بايدن أن تصنع السلام بمجرد الدعوة إليه. لكنّها تستطيع أن تدرك أن خطابها الشفهي حول مستقبل الدولتين قد فشل، وأن تتحول إلى نهج يركز على التعامل مع الوضع كما هو.
وهذا يستلزم التأكد من التزام إسرائيل بالقانون الدولي والمعايير الليبرالية لجميع الناس الذين يعيشون في الأراضي الخاضعة لسيطرتها، والتمسك بتعهد بايدن بتعزيز “تدابير متساوية من الحرية والعدالة والأمن والازدهار للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء”.
ويغلب أن يحمي مثل هذا النهج، الذي من شأنه أن يجعل سياسة الولايات المتحدة أكثر انسجامًا مع تطلعاتها المعلنة، وأن يخدم كلاً من الإسرائيليين والفلسطينيين -وأن يدعم المصالح الأميركية العالمية.
صنائع الفوضى
وُصف هجوم حماس المروع في 7 تشرين الأول (أكتوبر) في بعض الأحيان بأنه “غزو” اخترق فيه مسلحون “الحدود” بين إسرائيل وغزة. ولكن لا توجد حدود بين الأراضي الفلسطينية في غزة وإسرائيل، كما لا توجد حدود بين إسرائيل والضفة الغربية. إنَّ الحدود ترسم خطوط السيادة بين الدول -والفلسطينيون ليست لديهم دولة.أصبح قطاع غزة تحت السيطرة المصرية خلال حرب العام 1948، عندما تأسست دولة إسرائيل. وفي العام 1967، احتلت إسرائيل غزة، إلى جانب الضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان.
وعلى مدى السنوات الست والعشرين التالية، حكمت إسرائيل مباشرة القطاع الصغير المكتظ بالسكان، وأدخلت المستوطنات اليهودية إليه كما فعلت في بقية الأراضي الأخرى التي استولت عليها. وفي العام 1993، في أعقاب “اتفاقات أوسلو”، سلمت إسرائيل بعض شؤون الإدارة اليومية لقطاع غزة إلى السلطة الفلسطينية، لكنها احتفظت بهيمنة فعلية بإدامة وجود عسكري دائم فيه، وبالسيطرة على محيطه البري ومجاله الجوي، والإشراف على موارده المالية وإيراداته الضريبية.في العام 2005، قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك، أرييل شارون، الانسحاب من جانب واحد من غزة وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية الموجودة هناك. لكن ذلك لم يغير الحقائق الأساسية للاحتلال. على الرغم من أن الفلسطينيين تُركوا لتحديد الحكم الداخلي للقطاع، احتفظت إسرائيل بالسلطة المطلقة على الحدود المشتركة والشواطئ والمجال الجوي، بينما قامت مصر بمراقبة الحدود الوحيدة لغزة على طول شبه جزيرة سيناء، بالتنسيق الوثيق مع إسرائيل.
ونتيجة لذلك، سيطرت إسرائيل، بمساعدة مصرية، على كل ما يدخل إلى غزة أو يخرج منها -الغذاء ومواد البناء والأدوية والناس.بعد فوز حماس في الانتخابات في غزة في العام 2006، ثم تعزيز سلطتها هناك في العام 2007، وجدت الحكومة الإسرائيلية أنه من المفيد ترك المنظمة الإسلامية تراقب القطاع وتشرف على أمنه إلى أجل غير مسمى، وبالتالي ترك الفلسطينيين بقيادة منقسمة، ونزع فتيل الضغط الدولي على إسرائيل للتفاوض.
وفي الوقت نفسه، فرضت إسرائيل حصارًا على القطاع، مما عزله فعليا عن بقية العالم. ومن جهتها، وسعت حماس بشكل كبير نظام الأنفاق تحت الأرض الذي ورثته من إسرائيل للالتفاف على الحصار، وتعزيز قبضتها على اقتصاد غزة وسياستها، وبناء قدراتها العسكرية الخاصة. واندلاع النوبات المتكررة للصراع -التي عادة ما تنطوي على إطلاق حماس وابلاً من الصواريخ تليه ضربات انتقامية من إسرائيل- سمح لحماس بإظهار أوراق اعتمادها في المقاومة، وسمح لإسرائيل بإظهار أنها تقوم بـ”جز العشب”، حيث تسعى إلى إضعاف قدرات حماس العسكرية وبنيتها التحتية.
وغالبًا ما كانت عمليات إسرائيل تقتل مئات المدنيين من دون تحدي السيطرة الداخلية للمنظمة. وقد عانى شباب غزة تحت الحصار والعنف المتكرر، لكن حماس احتفظت بسيطرة مُحكمة على السلطة.في السنوات التي سبقت 7 تشرين الأول (أكتوبر)، بدا هذا الوضع بحكم الأمر الواقع في غزة -والإدارة الموازية للضفة الغربية التي تتولاها “السلطة الفلسطينية” الضعيفة- بائسًا، لكنه مستدام بالنسبة للعديد من المراقبين في كل من المنطقة والغرب.
وهكذا، يمكن لإدارة بايدن ببساطة أن تنحّي القضية الفلسطينية جانبًا في سعيها إلى تحقيق التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية.
ويمكن للسياسيين الإسرائيليين أن يتشاجروا حول الإصلاحات القضائية المناهضة للديمقراطية واستيلاء نتنياهو على السلطة، حتى في الوقت الذي تجاهلت فيه حركة الاحتجاج الإسرائيلية المستمرة إلى حد كبير ضم الحكومة الزاحف للضفة الغربية.
لكن الصدمة والغضب اللذين أثارهما هجوم حماس الوحشي والانتقام الإسرائيلي غير العادي الذي تلاه بددا ذلك الوهم، وأوضحا أن تجاهل وضع غير عادل بشكل واضح ليس أمرًا غير مستدام فحسب، بل إنه خطير للغاية، وأنه لا يمكن إعادة تشكيل النظام الإقليمي من دون الاعتراف بمحنة الفلسطينيين.
لا دولتان ولا دولة واحدة
بينما تتكشف الحرب في غزة، جادل العديد من الإسرائيليين بأنه لا يمكن العودة إلى الوضع الذي كان قائمًا بحكم الأمر الواقع، وهو ما يقصدون به عدم وقف إطلاق النار من دون “تدمير” حماس بالكامل.لكن بدائل حكم حماس التي اقترحها القادة الإسرائيليون هي إلى حد كبير استمرار للوضع القائم مسبقًا.
إن إسرائيل لا تقوم بغزو واحتلال غزة فجأة: إنها لم تتوقف أبدًا عن السيطرة عليها، وهو واقع حاضر جدًا بالنسبة لسكان غزة الذين عانوا على مدى 17 عامًا تحت الحصار الإسرائيلي.
ولعل من الأدق القول إن إسرائيل، التي كانت القوة المحتلة ذات السيادة في غزة لمدة 56 عامًا في ظل مجموعة متنوعة من التشكيلات السياسية، تحاول مرة أخرى إعادة كتابة قواعد هيمنتها. وكما أوضحت الحكومة الإسرائيلية، فإنه ليس لديها أي نية لمتابعة السعي المتجدد لإقامة دولة فلسطينية.كان الإسرائيليون قد فقدوا الاهتمام بشأن حل الدولتين قبل وقت طويل من 7 تشرين الأول (أكتوبر). وعلى مدى العقد الماضي، تراجع معسكر السلام الإسرائيلي، الذي يمثله “حزب ميرتس”، انتخابيًا إلى حد الانتهاء التام تقريباً؛ في العام 2022، فشل في تجاوز العتبة الانتخابية للتمثيل في الكنيست.
وكانت الحكومة الإسرائيلية الحالية قد تنصلت تقريبًا من “حل الدولتين” وضمت أعضاء يمينيين يتطلعون علنًا إلى الضم الكامل لغزة والضفة الغربية. وقد سارع هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) هذا الاتجاه.
وقد فقد الجمهور الإسرائيلي بأغلبية ساحقة ما تبقى من ثقة ضئيلة في حل على أساس الدولتين، مع صعود حركة استيطانية عازمة على السيطرة على جميع الأراضي الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط إلى سدة السلطة بلا هوادة.قد يجادل البعض بأن هؤلاء المستوطنين يمارسون مثل هذا النفوذ فقط لأن نتنياهو يعتمد عليهم للبقاء في السلطة. لكن المشكلة أكبر من ذلك بكثير.
فقد أصبح أغلب الإسرائيليين اليوم غير مهتمين بالمقدار نفسها بحل دولتين أو حل دولة واحدة قائمة على المساواة بين جميع السكان في الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية.
ويشعر الكثيرون أيضًا بأن هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) أكد أسوأ مخاوفهم بشأن الفلسطينيين. وسواء تم الاعتراف بذلك أم لا، فإن رفض كل من حل الدولتين وحل الدولة الواحدة القائمة على المساواة للجميع يترك احتمالين: المزيد من ترسيخ التفوق اليهودي والسيطرة على غرار الفصل العنصري على السكان غير اليهود الذين سيفوقون قريبًا عدد اليهود الإسرائيليين؛ أو ترحيل الفلسطينيين على نطاق واسع من الأرض، كما دعا بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية على الملأ.
وعلى الجانب الفلسطيني، انهارت مكانة السلطة الفلسطينية، التي كانت أساسية في تفكير واشنطن بشأن غزة ما بعد الحرب.
وإلى جانب عجزها عن وقف السياسات الإسرائيلية، فإنها تعاني من تصورات عن الفساد وعدم وجود تفويض انتخابي.
واليوم، لا يكاد أي فلسطيني يدعم رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس. (أظهر استطلاع للرأي أجري في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) خلال وقف إطلاق النار القصير في غزة أن نسبة تأييده بلغت سبعة في المائة).
وفي الوقت نفسه، ارتفعت شعبية حماس بين الفلسطينيين، وخاصة في الضفة الغربية. وتظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أنه ما يزال هناك بعض الدعم لحل الدولتين بين الفلسطينيين، ولكن لا توجد أي ثقة تقريبًا في الولايات المتحدة لتحقيقه. هذا هو الواقع السياسي الصارخ الذي سيواجهه أولئك الذين يضغطون من أجل إطار تفاوضي قائم على حل الدولتين. لا القيادة ولا الجمهور على أي من الجانبين يدعم مثل هذه العملية.
كما أن الحقائق على الأرض -البنية التحتية الأمنية والطرقية الإسرائيلية الواسعة والمتنامية والمصممة لربط وحماية المستوطنات اليهودية في جميع أنحاء الضفة الغربية، إلى جانب التدمير شبه الكامل لغزة- تجعل من قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة أمرًا لا يمكن تصوره تقريبًا.
ولم تعط الولايات المتحدة أي إشارة على استعدادها لممارسة القوة اللازمة للتغلب على هذه العقبات.الآن، يشعر البعض بالأسى لأن السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وجه ضربات قاتلة لكل من حل الدولتين وبديل قيام دولة واحدة عادلة وسلمية.
لكنّ أيًا منهما لم يكُن معروضًا. كان التأثير الرئيسي للحرب حتى الآن هو كشف الغطاء عن، والزيادة الدرامية في المظالم في دولة واحدة، قائمة على أساس القهر الاقتصادي، والقانوني، والعسكري الذي تمارسه مجموعة على أخرى -وهو وضع ينتهك القانون الدولي ويسيء إلى القيم الليبرالية.
هذا هو الوضع الذي يجب مواجهته قبل إمكانية طرح مسألة الدولتين. وهنا تستطيع الولايات المتحدة أن تُحدث فرقاً كبيراً.
ظروف حرجة
بدلاً من الضغط والدفع من أجل التوصل إلى حل دولتين ليس ثمة أي احتمال لتحقيقه تقريبًا، يجب على واشنطن أن تدرك الواقع الحالي وأن تستخدم نفوذها لفرض الالتزام بالقوانين والأعراف الدولية على جميع الأطراف.وقد تجنبت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة إلزام إسرائيل بهذه المعايير. بل إن إدارة بايدن ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، فحمت إسرائيل حتى من القوانين السارية في الولايات المتحدة نفسها. (في كانون الثاني (يناير)، وجد تحقيق أجرته صحيفة “الغارديان” أنه منذ العام 2020، استخدمت وزارة الخارجية الأميركية “آليات خاصة” لمواصلة تزويد إسرائيل بالأسلحة، على الرغم من القانون الأميركي الذي يحظر مساعدة الوحدات العسكرية الأجنبية المتورطة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان).
وهذا يحتاج إلى تغيير. ببساطة من خلال دعم النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد، يمكن لواشنطن أن تفعل الكثير للتخفيف من أحلك المظالم التي يشهدها الوضع الحالي.
ولن يتعلق مثل هذا النهج بإملاء واشنطن على الإسرائيليين والفلسطينيين ما يجب فعله. إنه يتعلق بإنهاء الممارسة الشاذة المتمثلة في استخدام موارد أميركية كبيرة لتمكين سلوك تجده الولايات المتحدة مرفوضًا، بل ويتعارض مع المصالح الأميركية نفسها. ينبغي أن يتضمن نهج قائم على القواعد لإدارة وضع ما بعد الحرب في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية عدة مكونات.
ولاً، يجب على الولايات المتحدة أن تتخلى عن رفضها الدعوة إلى وقف إطلاق النار (على الأقل حتى كتابة هذه السطور)، والسعي إلى إنهاء الحرب في غزة وإعادة الرهائن الإسرائيليين في أسرع وقت ممكن.
ومن شأن وقف لإطلاق النار أن يوقف القتل اليومي لمئات الفلسطينيين وأن يسمح بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، مما يحول دون الانتشار السريع للمجاعة والأمراض المعدية.
كما أنه سينهي إطلاق حماس للصواريخ على إسرائيل، ويخفف من حدة التوترات مع “حزب الله” على الحدود الإسرائيلية اللبنانية، ويسمح للإسرائيليين النازحين بالعودة إلى بلداتهم الحدودية.
وقد يؤدي ذلك إلى قيام الحوثيين في اليمن بإنهاء حملتهم ضد الشحن البحري في البحر الأحمر، التي وسعت الحرب بشكل خطير. (قال كل من زعيم “حزب الله”، حسن نصر الله، وأعضاء من الحوثيين في تصريحات علنية إنهم سيوقفون الهجمات في حالة وقف إطلاق النار، وأكد نصر الله أن الهجمات ضد القوات الأميركية في العراق وسورية التي تشنها الميليشيات المدعومة من إيران سوف تتوقف أيضًا). (يُتبع)
*مارك لينش Marc Lynch: أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن.
متخصص في شؤون الشرق الأوسط، خاصة شؤون الإسلاميين والعراق وفلسطين، وهو مؤلف كتاب “أصوات الشعب العربي الجديد” من منشورات (دار جامعة كولومبيا للنشر، صدر في كانون الأول (ديسمبر) 2005. بدأ مبكراً في التعرف علي الوطن العربي الذي عاش فيه ثلاث سنوات في بداية التسعينيات متنقلا بين عمان والقاهرة، وله رؤية حول ضرورة دمج الإسلاميين في الحياة السياسية في المجتمعات العربية. ينشر كتاباته في مجلة “فورين أفيرز”.
*شبلي زكي تلحمي Shibley Telhami (1951): أستاذ جامعي في العلوم السياسية، أميركي من أصل فلسطيني من فلسطينيي 1948. أستاذ كرسي أنور السادات للسلام والتنمية في جامعة مريلاند، كوليج بارك، وزميل غير مقيم في مركز صبان لسياسات الشرق الأوسط في معهد بروكنجز.
وباحث ومحلل سياسي. عمل مستشارًا للبعثة الأميركية في الأمم المتحدة (1990-1991)، ومستشارًا لعضو الكونغرس السابق لي هاملتون، وعضوًا في وفد الولايات المتحدة إلى اللجنة الثلاثية الأميركية الإسرائيلية الفلسطينية، التي انتدبت حسب اتفاقية “واي ريفر”، من بين الكثير من المناصب والعضويات الأخرى.