دمشق – «القدس العربي» : تشهد مناطق سيطرة المعارضة في إدلب ومحطيها شمال غربي سوريا، حالة من الاحتقان الشعبي ومظاهرات شعبية زاخمة منذ 25 فبراير/ شباط الفائت، ضد هيئة تحرير الشام، على خلفية الاعتقالات التي نفذتها الهيئة خلال العام الماضي في قضية “العملاء للنظامين السوري والروسي والتحالف الدولي”، حيث ناهز تعداد المعتقلين لدى الهيئة نحو 1000 شخص من عناصر وقيادات عسكرية وأمنيين، أفرجت عن قسم منهم، بالإعلان عن براءتهم، حيث ظهرت عليهم آثار التعذيب، ما أثار أزمة غير مسبوقة في المنطقة.
ومع توسع رقعة الاحتجاجات في أرياف إدلب وحلب في كل من بنش وتفتناز وسرمدا وحزانو والأتارب وطعوم والفوعة ودارة عزة، ارتفع سقف المطالب، حيث نادى المتظاهرون بتنحي زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني، وانتخاب مجلس شورى ومجالس محلية لقيادة المناطق، كما طالبوا بتحييد جهاز الأمن العام عن الحياة العامة، وإطلاق سراح معتقلي الرأي، وإلغاء الرسوم والضرائب على البضائع.
الاحتجاجات دفعت الجولاني للخروج، مساء الثلاثاء، بكلمة جمع لها نشطاء وإعلاميين ووجهاء وقادة عسكريين، وممثلين عن المؤسسات العامة والفعاليات الثورية في إدلب، تعهد فيها الاستجابة إلى مطالبهم، وتوعد من يتجاوز “الخطوط الحمراء في المناطق المحررة”.
وقال في كلمته: “تستطيعون أن تتفقوا على شخص بنسبة 60% أو 70% وأنا معكم، وكما أن هناك مطالب أعتقد أن الوقت لا يسمح بها الآن، أو ستؤثر على حياة الناس، هناك خطوط حمراء يجب أن يعيها الجميع، خطوط حمراء أرجو ألا يصل أحد إليها، وأرجو أن توقفون من يسعى لخراب المحرر، لأنه إذا تدخلنا لحماية المحرر سنتدخل بشكل شديد، ولن نسمح لأحد على الإطلاق بأن يمس المحرر بسوء، وما وصلنا إليه من مكتسبات لن نعود فيها إلى الوراء على الإطلاق، لذلك انتبهوا وحذروا الناس، لأن ما بني في سنوات لن نسمح له أن يهدم على الإطلاق، فهو بني على دماء وأشلاء أناس ضحت”.
وتابع قائلاً: “دعونا نعيش بالمحرر جميعاً بسلام وأمان، لا تعيدونا إلى المربع الأول، هذا الكلام بناء على معلومة وليس تحليلاً، هناك من تضرر من الانضباط في المحرر مستغلاً المطالب المحقة والحادثة الأخيرة التي حدثت، بعد هذا المجلس أرجو أن يكون الأمر قد حل. العودة إلى الوراء خط أحمر بالنسبة إلينا”.
وتبدو الديناميات الحالية للمظاهرات مختلفة عن أي احتجاجات سابقة اندلعت ضد الهيئة، حسب مدير “مركز جسور للدراسات الاستراتيجية” محمد سرميني، الذي عزا السبب إلى تفاعل فئات مختلفة مع الاحتجاجات من جهة مشاركة “نشطاء مدنيين مستقلين وهم الأكثر حضوراً، ومن جهة أخرى وجد حزب التحرير فيها فرصة لتجديد احتجاجاته ضد الهيئة، فضلاً عن مشاركة عناصر من بعض ألوية الهيئة الناقمين على قيادتها بسبب تعرُّض قادتهم وأقاربهم للانتهاكات في سجونها، إلى جانب انخراط أفراد من فصائل مناهضة للهيئة في الاحتجاجات”.
وتشير الاحتجاجات وفق المتحدث إلى ارتفاع سقف مطالب المتظاهرين -على اختلاف شرائحهم- حيث ينادي هؤلاء بتنحي الجولاني عن قيادة الهيئة، وتفكيك جهاز الأمن العامّ، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
وأضاف: “بالتوازي ثَمّة حراك يقوم به الجولاني لاحتواء الاحتجاجات والأزمة الداخلية المتصاعدة التي يُمكن أن تغذّي غضب الشارع؛ حيث أجرى اجتماعات مع نشطاء وإعلاميين ووُجهاء محليين وقادة عسكريين قدّم فيها وعوداً بالاستجابة إلى مطالبهم، إلى جانب استخدامه أسلوب التهديد أيضاً بإشارته إلى عدم سماحه بتجاوُز الخطوط الحمراء واستعداده لتغيير طريقة تعامُل الهيئة مع الأحداث”.
ومن المحتمَل وفق رؤية سرميني أن يسعى الجولاني لاحتواء الأزمة مع الجناح العسكري مؤقتاً ليستطيع بذلك توسيع خياراته في التعامُل مع الاحتجاجات الشعبية ذات المطالب المرتفعة؛ والتي تنادي بتنحّيه وتفكيك جهاز الأمن العام أو إعادة تشكيله ضِمن حكومة الإنقاذ وتغيير مرجعية الحكم الحالية في منطقة إدلب باختيار مجلس شورى جديد يمثّل المنطقة والسُّكّان بشكل واضح.
ورجح مدير مركز جسور للدراسات أن يرتبط تراجع زخم الاحتجاجات بإجراءات الهيئة العملية وإصلاحات واقعية، والتي ما تزال تقتصر -بحسب الظاهر- على احتواء أزمة الجناح العسكري مؤقتاً، من خلال إخراج أغلب قيادات المجموعات العسكرية الذين تم اعتقالهم، وأبرزهم أبو مارية القحطاني، والإيعاز إلى وزارة العدل في حكومة الإنقاذ لإصدار عفو عامّ، وتقديم منحة مالية لكل عوائل الشهداء وللموظفين الحكوميين.
وحول مآلات الاحتجاجات، قال سرميني: “تبدو أزمة الاحتجاجات هشّة وغير مؤيّدة من شرائح عديدة بشكل واضح، وإنّ استمرارها وتصاعدها قد يدفع الجولاني وبعض قيادات الهيئة لاختبار استخدام العنف على نطاق تدريجي ومحدود بالرغم من تجنب هذا الخيار حتى الآن، كما يبدو أنّ خيار تنحيه عن قيادة الهيئة أو حل جهاز الأمن العامّ أو إجراء انتخابات لتعيين قيادة جديدة للمنطقة مستبعَدٌ حالياً ما لم تتسع الاحتجاجات وتأخذ طابعاً عنيفاً، مما قد يضطره لاستحضار سيناريو القيادة من الخلف الذي قام به أثناء تأسيس الهيئة بتعيين هاشم الشيخ (أب ي جابر) قائداً للهيئة، وإلحاق جهاز الأمن العامّ بوزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ بعد ضمان السيطرة عليه إضافة إلى تأسيس قوة أمنية خاصة به أشبه بالحرس الثوري”.
وفي العموم، تظهر الديناميات المعقَّدة أن الاحتجاجات الحالية في إدلب لها أبعاد عسكرية وسياسية واجتماعية، كما أنها ستؤثر بشكل كبير على مستقبل المنطقة، خاصةً على صعيد الأمن والاستقرار في حال وُوجِهت بالعنف، كما أن احتواءها الكامل قد يُؤدي إلى تغيير شكلي في قيادة الهيئة، وإجراء تغيير فعليٍّ في هيكليتها وموازين القوى داخلها.