ملخص
قد تنبع من صدمة السابع من أكتوبر وتداعياتها فرصةٌ لإحداث تحول إيجابي في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني
يُزعم أن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أبلغت قادة البلاد في فبراير (شباط) أن “حماس” سوف تصمد وتستمر كجماعة إرهابية بعد الحرب. وعلى رغم هذا التقييم، يواصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التأكيد على أنه سيحقق “نصراً كاملاً” على “حماس”، وأن ذلك سوف يستغرق “أشهراً وليس سنوات”.
ويرجع هذا جزئياً إلى أن هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) قد غيّر وجه إسرائيل، ووقع وقع الصدمة على الإسرائيليين وعزز قناعتهم بأنهم لا يستطيعون التعايش مع سيطرة “حماس” على قطاع غزة. ويبدو أن الحملة الجوية والبرية التي شنتها إسرائيل على غزة كانت تهدف إلى استئصال “حماس”، وهي مهمة عسيرة نظراً لشبكة الأنفاق والدهاليز المعقدة التي تديرها الحركة، واستخدامها الخبيث والوقح لجميع سكان القطاع كدروع بشرية. ويدفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً فيما تبذل إسرائيل جهوداً ترمي إلى ضمان منع “حماس” من تهديدها مرة أخرى من داخل غزة، وهو أمر، على حد تعبير نتنياهو، لا يزال يقتضي أن ترسل إسرائيل قوات إلى مدينة رفح الجنوبية، على الحدود مع مصر. وقد أصر الرئيس الأميركي جو بايدن على أن هذه الخطوة ليس من المفترض أن تُتّخذ إلا بعد وضع خطة إخلاء ذات مصداقية تحدد مصير سكان غزة البالغ عددهم 1.3 مليون نسمة المحاصرين الآن في هذه المنطقة.
وإذا قيض لـ “حماس” الصمود والاستمرار كمجموعة إرهابية في غزة، مثلما توقعت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، فحري بنتنياهو أن يتقبل حقيقة أنه من المستحيل إحراز نصر كامل في القطاع. وفي آن واحد، في حين تحرص إسرائيل على أن “حماس” غير قادرة على الحفاظ على وجودها العسكري في رفح، عليها أيضاً أن تضمن أن الحدود مع مصر لم تعد تشكّل غربالاً ذا ثقوب يمكن من خلاله تهريب كميات هائلة من المواد إلى غزة، وهذه الفكرة تتطلب على الأقل العمل على نظام مشترك أو نهج منسق مع القاهرة لوقف التهريب من سيناء إلى غزة. وبالتالي، تحتاج إسرائيل إلى استراتيجية، وليس مجرد شعارات، لضمان ترجمة جهودها العسكرية (وإنجازاتها) في غزة إلى واقع سياسي جديد يؤكّد أن إسرائيل لن تظل معرضة للتهديد من القطاع.
بينما تحتدم المعركة
إن نقطة البداية في استراتيجية فعالة وناجعة هي صياغة الهدف على نحو مختلف. لقد حان الوقت لكي يدرك القادة الإسرائيليون أنهم لن يتمكنوا مطلقاً من استئصال حركة “حماس” أو التخلص منها. ووفق ما اكتشفته الولايات المتحدة في جهودها الرامية إلى القضاء على تنظيم “داعش” فمن المتعذر القضاء على أي أيديولوجية، مهما كانت بغيضة. في الواقع، نجحت الولايات المتحدة في إلحاق هزيمة عسكرية بتنظيم “داعش”، لكنها لا تزال تحتفظ بنحو 3000 جندي في العراق و900 جندي في سوريا لضمان ألا يعيد “داعش” تنظيم صفوفه.
لن تتمكن إسرائيل من الحفاظ على وجودها في غزة إذا أرادت إحداث تحول في القطاع، وهي لا تريد أن تقع على عاتقها مسؤولية 2.3 مليون فلسطيني يعيشون في غزة، ناهيك عن الاضطرار إلى التعامل مع التمرد الذي سينجم على نحو شبه مؤكد عن أي إعادة احتلال لغزة. ومع ذلك، ليس من المفترض أن تغادر إسرائيل القطاع قبل أن تتأكد من أن “حماس” ليست في وضع يسمح لها برص صفوفها، وبناء قدراتها العسكرية من جديد وإعادة بسط سيطرتها السياسية وإحكام قبضتها. وهذا لا يتطلب بالضرورة القضاء على حركة “حماس”، بيد أنه يقتضي تدمير بنيتها التحتية العسكرية، ومستودعات أسلحتها، وقاعدتها الصناعية العسكرية، وأنظمة قيادتها، وتماسكها التنظيمي. وإلى ذلك، يتطلب الأمر إنشاء بديل عن “حماس” قادر على تولّي الإدارة اليومية وضمان تطبيق القانون والنظام اللازمين لإعادة الإعمار. وبعبارة أخرى، فإن هدف إسرائيل، والولايات المتحدة، المنشود يجب أن يكون نزع السلاح من غزة بشكل دائم، ومنع استخدام القطاع مرة أخرى كمنصة لشن هجمات ضد إسرائيل. وسيكون هذا مفيداً بالنسبة إلى الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، إذ لن تضطر إسرائيل إلى عزل غزة أو مهاجمتها مجدداً.
والإيجابي في هذا المعرض هو أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تحرز تقدماً في تجريد غزة من السلاح وتفكيك قدرة “حماس” العسكرية. وسبق أن دمرت القوات الإسرائيلية 18 كتيبة تابعة لـ”حماس” من أصل 24. وعلى رغم أن مقاتلي تلك الكتائب لم يتعرضوا جميعاً للقتل أو الأسر، لكن وحداتهم لم تعد موجودة، ولم تعد تشكل جزءاً من المقاومة المنظمة. وما زال من الممكن أن يشكل مسلحو “حماس” الناشطون تهديداً، وهذا يعني أن بعض أشكال الوجود الأمني سوف يظل ضرورياً في الوقت الحاضر، حتى في تلك المناطق التي مُنيت فيها قوات “حماس” بهزيمة نكراء.
ائتلاف واسع
وهذه المناطق، بدءاً من الجزء الشمالي من غزة، هي المواقع التي يجب أن ينتقل إليها النازحون من رفح. لقد هُجّر عدد من هؤلاء الأشخاص في الأيام الأولى من الصراع، عندما بدأت إسرائيل حملتها في مدينة غزة وبيت حانون ومخيم جباليا للاجئين. ومما لا شك فيه أن هؤلاء النازحين يرغبون في العودة إلى منازلهم. لكنّ المشكلة هي أن 70 في المئة من جميع المباني في الشمال إما دمرت أو أصبحت غير صالحة للسكن. ولهذا السبب فالخطوة الأولى في الاستراتيجية يجب أن تكون إنشاء آلية لمعالجة الوضع الإنساني، بقيادة الولايات المتحدة، وبالشراكة مع السعودية ودول الخليج. ويجب تقديم مساعدة فورية في ما يتعلق بالسكن الموقت والمتنقل. ومن المؤكد أن السعوديين، نظراً لخبرتهم في التعامل مع الأعداد الكبيرة جداً من الحجاج الذين يأتون إلى المملكة وتوفير المأوى لهم في كثير من الأحيان، يمكن أن يسهموا بالتأكيد في هذا الجهد. ويمكن للإماراتيين والقطريين أيضاً تمويل الكرفانات والمقطورات والمنازل الجاهزة المسبقة الصنع.
صحيح أن دول الخليج قالت إنها لن تقدم مساعدات إعادة الإعمار إلا إذا كانت مرتبطة بخطة لحل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. على رغم ذلك، فهي تسهم بالفعل في المساعدات الإنسانية، وفي ما يتعلق بمسألة تلبية الحاجات الإنسانية، لا شيء أهم من توفير الغذاء والمأوى. ومن المؤكد أن هذه الدول تستطيع أن تسوّغ الإجراءات التي تتخذها باعتبارها ضرورية لتخفيف معاناة الفلسطينيين. يتعين على دول الخليج، إضافة إلى مصر والاتحاد الأوروبي والأردن والولايات المتحدة، أن تتعاون مع النظام الإداري [البنية البيروقراطية] في غزة الذي أنشأته السلطة الفلسطينية للمرة الأولى في عام 1994 واستمر في العمل تحت قيادة “حماس”، وقد لعب هذا النظام دوراً إدارياً، وليس سياسياً، في إدارة الحاجات اليومية. كذلك، ينبغي إشراك رجال الأعمال الفلسطينيين من داخل غزة وخارجها في إدارة القطاع، ويجب أن تتعاون المنظمات الإنسانية معهم لتوزيع المساعدات وتحفيز بدايات النشاط التجاري.
وستكون هناك حاجة إلى فرض تدابير أمنية لتسليم المساعدات الإنسانية وتوزيعها، بحسب ما اتضح أخيراً من التزاحم والتدافع بين الناس وهم يهرعون للوصول إلى الشاحنات المحملة بالأغذية في شمال غزة، مما أدى إلى سقوط ما يقرب من مئة قتيل. وعلى رغم أنه من غير المرجح أن ينشر أعضاء هذه المنظمة الإنسانية قواتهم العسكرية على الأرض، إلا أنهم يستطيعون توفير مقاولين خارجيين يتمتعون بالخبرة الأمنية، وتوظيف فلسطينيين محليين غير تابعين لـ”حماس” في أدوار أمنية. كذلك، قد يكون التعاقد مع الفلسطينيين المحليين لإحلال الأمن أمراً ممكناً. أخبرني أحد كبار مسؤولي الأمم المتحدة أن الموجودين على الأرض في غزة يرغبون في الحصول على الراحة والإغاثة، ويشعر كثير منهم بالغضب من “حماس”، وعندما يظهر مقاتلو الحركة، غالباً ما يرميهم الناس بالحجارة. في الواقع، ينبغي تنظيم هذا الأمن على أساس الممارسات المثلى المستمدة من نماذج أخرى قائمة. فالإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، توفر الأمن للمستشفى الميداني الذي أنشأته في غزة، ومن الواضح أنها تعتزم فعل الشيء نفسه بالنسبة إلى المخابز الآلية الخمسة التي ترسلها الآن لتلبية الحاجات الغذائية. ويمكن حتى توسيع هذه المساحات الأمنية. ومن خلال هذه الجهود والمبادرات، يمكن للمناطق التي سيعود إليها النازحون أن تتحول إلى مشاريع نموذجية ناجحة، مما يدل على أن الحياة والتعافي ممكنان طالما أن “حماس” لا تتولى السيطرة.