دأب الاستبداد ، مع اختلاف الأزمنة والأمكنة ، على استخدام الأجهزة السلطوية في عمليات الضبط والربط للمجتمعات التي يحكمها . ويوظف هذه الأجهزة على تعددها وتنوع مهامها في قمع " الرعايا " ، لتأمين الانصياع له والهدوء في البلاد والاستمرار للسلطة ، مستخدماً كل ما لديه من قوى مسلحة في الشرطة والدرك والمخابرات والجيش والتشكيلات الخاصة التي يبدع في استيلادها وتظهير المهمات لها . فمن أيام الانكشارية والقره قول إلى زمن الدولة الأمنية المتعددة الأجهزة والوظائف ، من سرايا دفاع وسرايا صراع وكتائب حفظ النظام وغيرها وغيرها من الأجهزة والمؤسسات المثيلة والجوهر واحد : السلطة وأدواتها في مواجهة الشعب .
ونتيجة لاستفحال الاستبداد وتعقد مواجهاته المستمرة مع الشعب ، مدت السلطة يدها إلى الدولة ومؤسساتها ، لتستخدمها في وظائف أمنية رديفاً للأجهزة السلطوية وأحياناً كبديل عنها . ولم تكن هذه الأدوات الجديدة أقل عسفاً من أجهزة السلطة نفسها ، بل كانت أشد إيلاماً وأكثر خطورة . لأن إجراءاتها وتصرفاتها تمس أسر الضحايا ولقمة عيشها ومستقبل أولادها . وفي ذلك قال شاعر سوري مجيد " يخصون الرجال من أفواه أطفالهم " . وانتشرت سوابق التسريح التعسفي والفصل من العمل والطرد من الوظيفة والنقل القسري إلى مناطق بعيدة أو إلى أعمال أخرى . إضافة إلى العديد من أشكال التنكيل الإداري كالمحاكم المسلكية ، على قاعدة واحدة هي الاضطهاد السياسي للمعنيين العاملين بالدولة ، في محاولة للنيل منهم وتأديبهم وتجويعهم .
وبعد أن أحكمت السلطة قبضتها على مؤسسات الدولة وأجهزتها كافة ، وأتقنت تسخيرها لخدمة أغراضها الخاصة والضيقة ، مستخدمة إياها أدوات قمع بلبوس " قانوني " أو " إداري " غير عنفي وخارج إطار الأنظمة المرعية ، ويدعي مراعاة " مقتضيات المصلحة العامة " ، لكنه أشد وقعاً وأبعد خطراً من الإجراءات السلطوية العارية . نقول بعد ذلك جاء دور المجتمع ومؤسساته المختلفة ، لتسخر بوظائف سلطوية في مواجهة الشعب وضد أعضائها بالذات . إذ يبدو أن تطور آليات الاستبداد وحاجاته المتعاظمة لاحتلال كل زاوية وكل موقع ، واستسهاله انتهاك الفضاءات الخاصة للأفراد والجماعات والمؤسسات دفعه لاقتحام المجتمع ومنظماته المدنية المتنوعة كالاتحادات والنقابات والجمعيات ، وتحويلها إلى استطالات لأجهزته القمعية ، تنفذ إرادته وتوجهاته ورغباته ، وتنوب عنه في التنكيل بمن يختلف أو يعترض أو يعارض . حيث يمكن لإجراءات هذه المنظمات أن تفعل ما لا تستطيع أن تفعله أدوات القمع المباشر ، في الوقت الذي تبقي فيه ( شكلياً فقط ) يد السلطة بمنأى عن المساءلة والإدانة والتشهير .
في هذا السياق أتى قرار نقابة المحامين بدمشق بشطب اسم المحامي مهند الحسني من عضوية النقابة ، على أرضية اعتقاله وتوجيه التهم المكرورة الباطلة إياها التي توجه لجميع المثقفين والسياسيين السوريين في صفوف المعارضة . وها هي توجه في تطور نوعي لنشطاء حقوق الإنسان . وأبرز مثالين على ذلك المحاميان مهند الحسني وهيثم المالح .
من المعروف أن النقابات تنشأ على أرضية مجتمعية وبإرادة أعضائها ولحماية دورهم ورعاية مصالحهم ، إضافة إلى مساهمتها في الشأن العام ضمن مسؤولياتها الخاصة والاختصاصية . وها هو نظام الاستبداد يحولها إلى وسيلة ضبط للمجتمع وأداة تنكيل بأعضائها ومنتسبيها . وإذا استطاع المرء أن يتخيل نقابة ما في دور كهذا ، بعد نجاح السلطة في اقتحام النقابات وتحويلها عن مهامها الأساسية ، إلا أنه لا يستطيع أن يتخيل – كما لا يمنكه أن يقبل – أن تكون نقابة المحامين بالذات هي من يفعل ذلك . ( رغم معرفتنا الأكيدة بما فعله النظام بالنقابات ومنها نقابة المحامين عام 1980 ) . لأن هذه النقابة من أقدم النقابات السورية ، ومن أعرق مثيلاتها في الوطن العربي . ولها تاريخ مجيد ومشهور في العمل الوطني ودور رائد في حماية الحريات العامة وسيادة القانون في مختلف المراحل التي مرت بها بلادنا . كما كان لها دور مميز في رعاية مصالح المحامين السوريين المادية والمعنوية . فكيف يمكن لمنظمة هي الجناح الآخر للعدالة ، والشريك الموازي للمؤسسة القضائية في رعاية الحياة الدستورية والقانونية وحمايتهما في كل من الدولة والمجتمع ، أن تصبح أداة سلطوية بهذه الفجاجة ، تنكل بأعضائها عوضاً عن أن تتولى حمايتهم والدفاع عنهم ؟ !
وكيف لها أن تتجرأ متجنية على محام مخلص مشهود له بالكفاءة والمهنية والوطنية ، لتحاسبه على حسن قيامه بواجباته كمواطن وإنسان وكمحام في فضح انتهاكات حقوق الإنسان في بلده والدفاع عن المظلومين والمضطهدين من أبناء شعبه ؟ ! ألا يقوم الأستاذ الحسني ببعض المهام التي يتوجب على النقابة أن تقوم بها ، وربما قام بذلك منفرداً نتيجة لتقاعس نقابته عن فعل ذلك ، ألا يستحق بفعله هذا التحية والتقدير ويكون في موقع القدوة الحسنة ؟ !
وإذا استطاع الأستاذ الحسني بكثير من التسامح والكبرياء أن يلتمس العذر ويتفهم الأسباب " التي دفعت بالبعض للموافقة على القرار " ، فنحن لا نستطيع . لأن للقادة النقابيين صورة أخرى عندنا .
ليس مؤسفاً فحسب ، لكنه مؤلم حقاً ، قرار نقابة المحامين بحق أحد أعضائها البارزين . ليس بما يمثله هذا القرار للأستاذ الحسني فقط ، إنما أولاً وقبل كل شيء لما يمثله في صيرورة نقابة المحامين مقارنة بتاريخها الطويل المشرق . وبما يحمله من انعكاسات روحية ومعنوية على العمل الحقوقي والقانوني في البلد وعلى العمل الوطني فيها بشكل عام .
غير أن نقابة يخرج من صفوفها أمثال مهند الحسني وهيثم المالح وغيرهم كثيرون ( ونخص منهم الأفاضل الثلاثة في مجلس النقابة الذين اعترضوا على القرار الظالم ولم يوافقوا عليه ) ، لا يمكن أن تصبح حصناً للاستبداد ، حتى ولو عسكر فيها إلى حين . فالمحامون السوريون كانوا على الدوام رواداً للنهضة والحداثة في مجتمعهم ، وكانت نقابتهم قلعة من قلاع العدل والحرية في سورية ، ولا تستطيع النقابة أن تتنكر طويلاً لناسها وتاريخا .
على أمل أن تكون إجراءات الاستبداد وسطوته الثقيلة غيمة عابرة .
18 / 11 / 2009
هيئة التحرير