لم تقم إسرائيل يوماً اعتباراً للأمم المتحدة ولا لمجلس الأمن ولا للاتحاد الأوروبي ولا للقمم العربية ولا للاتحاد الأفريقي ولا لروسيا ولا للصين ولا لمنظمة العفو الدولية ولا للجان حقوق الإنسان ولا للمحاكم الدولية ولا حتى لحليفتها الولايات المتحدة الأميركية ورؤسائها، حتى لو سايرت بعضهم على مضض وخداع أحياناً.
تتصرف إسرائيل تاريخياً بناءً على قاعدتين كرستهما الحركة الصهيونية منذ ما قبل قيام الدولة، وهما متناقضان إلى حد ما. أولاهما أن الإسرائيليين (اليهود) هم شعب متفوق ومختار إلهياً، بحسب التوراة، وكل الأغيار خُلقوا لخدمته، وثانيتهما أن هذا الشعب تعرض للاضطهاد طويلاً وعلى العالم كله التكفير عن ذنب مضطهديه الذين ليس بينهم الفلسطينيون (ولا العرب) بالتأكيد. هنا وضعت إسرائيل نفسها في حضن الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، ولم تتوان عن نتف لحيتيهما، كما يقول المثل المعبر عن الولد الدلوع والوقح والناكر للجميل.
يوم الأحد ارتكبت إسرائيل مجزرة رهيبة في رفح، قتلت نحو خمسين فلسطينياً من اللاجئين إلى خيم متهالكة في المدينة المحاصرة والمهددة بالإبادة جنوب غزة. وصل صراخ الأطفال وعويل النساء إلى حدود السماء، أحرقت الصواريخ الخيام وقطعت شظاياها الأطراف فاصلة الرؤوس عن الأجساد. تفحمت الجثث ولم يبق من بعضها إلا رماد وشبه هياكل مشوّهة وممحوة المعالم.
أتت الاستنكارات من كل أنحاء العالم وبلهجات شديدة، رفعت دول أوروبية ومنظمات دولية أصواتها، ودعا سياسيون في فرنسا وإسبانيا والنروج وأيرلندا وألمانيا وبلجيكا وأستراليا ودول أميركية جنوبية وآسيوية إلى وقف الحرب فوراً وإلى تقديم حكام إسرائيل إلى العدالة الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني.
الولايات المتحدة التي تقوم قيامتها لدى أي حدث يوقع قتلى إسرائيليين وتنخدش مشاعرها لرؤية أطفال يعذبون أو يموتون في أي مكان في العالم، لم تهتز مشاعرها لهول المجزرة، هؤلاء الأطفال ليسوا شعباً مختاراً، مع أنهم ساميون مثبتة ساميتهم منذ آلاف السنين. اكتفت الرئاسة الأميركية بالدعوة إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة لتحييد المدنيين (كذا). ماذا لو كانت الآية معكوسة وسقطت الصواريخ على مدرسة أو تجمع لعائلات إسرائيلية من المرحلين من مستوطنات الشمال؟ ألم يكن موكب الرؤساء الغربيين أو ممثليهم ليحط في إسرائيل متضامناً ومتعاطفاً؟ أو لتصل حاملات الطائرات والمدمرات لترابط في البحر قبالة غزة وحيفا ويافا لتحمي إسرائيل من خطر وجودي؟
لم تبال إسرائيل بالتنديد الواسع بالمجزة، ما زال رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو يتحدث بصفاقة عن أخلاقيات جيشه الذي يدمر الحجر ويقتل البشر ويحرق المكتبات كما فعل هولاكو ببغداد ومدن الشرق عام 1258 ميلادي.
بعد يومين من حرق الخيام قتل هذا الجيش “الأخلاقي” أكثر من ثلاثين مدنياً فلسطينياً في قصف مشابه، من دون أن يرف جفن لنتنياهو ومن دون أن يقرر العالم أنه آن الأوان لعمل فعلي يوقف هذه الحرب الوحشية.
تتحدى إسرائيل العالم، تتجاهل حركات الطلاب في الجامعات وتظاهرات الشوارع في المدن العالمية، تصر على المضي في حربها على غزة حتى لو كلفها ذلك خسارات سياسية وشعبية لا تعوض، لا سيما في أوساط الجيل الجديد في دول العالم، لا سيما تلك المتعاطفة معها والتي ما زالت تتحمل عبء المواقف اللاإنسانية من أجل حمايتها.
كان يمكن لمجزرة مثل مجزرة الخيام في رفح أن تكون منعطفاً حاسماً في الحرب، يفرض من خلاله العالم على إسرائيل وقفاً فورياً للنار والتفاوض الجدي على حل حقيقي للنزاع الذي لن ينتهي ما دام هناك شعب فلسطيني بلا دولة ولا حقوق، لكن العالم لم يلتقط اللحظة، ذلك لأنه لا يريد ولأن أميركا لا تريد، فرئيسها منخرط في الحرب إلى جانب نتنياهو رغم بعض الخلافات الظاهرية على بعض التفاصيل.
هذه حرب، من ضمن الحروب الكبرى للسيطرة على العالم، جنباً إلى جنب مع حرب أوكرانيا وتوترات الصين – تايوان وغيرها من صراعات النفوذ في العالم، ويبدو أن العالم لا يحسب حساباً لأرواح الفقراء.
لعل الطريف في الموضوع أن الجيش الإسرائيلي سيحقق في المجزرة، ما يذكّر بقصة الأعرابي الذي دُعي إلى حلف اليمين على القرآن في ذنب اقترفه فقال “أتى الفرج”، والنتيجة معروفة سلفاً وهي أن القصف لم يكن مقصوداً.
– النهار العربي