مقدمة
علاء الدين أبو زينة
كانت العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني والمحكمة الجنائية الدولية دائما علاقة توتر وصراع. ويزداد هذا الاحتكاك حدة بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بتحقيقات محتملة في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها قادة الكيان. وقد اتخذت كل من الولايات المتحدة والكيان تدابير مختلفة لتخويف المحكمة الجنائية الدولية وتعطيل عملياتها، في ما يشكل تهديدات خطيرة لسلامة تطبيق القانون الدولي والعدالة.
كانت الولايات المتحدة تاريخيا من أشد منتقدي المحكمة الجنائية الدولية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتحقيقات التي يمكن أن تورط حلفاءها المنسجمين مع نظريتها. وقد برز هذا الموقف بوضوح شديد في العام 2020 عندما أعلن وزير الخارجية آنذاك، مايك بومبيو، عن فرض عقوبات صارمة على مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، بمن فيهم المدعية العامة في ذلك الحين، فاتو بنسودا، ردا على تحقيقات المحكمة في جرائم حرب محتملة في أفغانستان والأراضي الفلسطينية.
وصف بومبيو المحكمة الجنائية الدولية بأنها “مؤسسة فاسدة تمامًا”، مؤكدًا أن أي محاولات للتحقيق مع مواطنين أميركيين أو “إسرائيليين” ستواجه بإجراءات عقابية قوية. وشملت هذه التهديدات فرض عقوبات مالية وحظر للسفر، بهدف شل قدرة المحكمة على العمل بشكل مستقل. والآن، تواصل إدارة بايدن، ولو بطريقة أكثر دبلوماسية، التعبير عن تحفظاتها بشأن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالتعامل مع أعمال أميركا والكيان، مما يؤكد التزام الحزبين الأميركيين بحماية الحلفاء من التدقيق والمحاسبة الدوليين.
ليس الكيان، مثله مثل الولايات المتحدة، من الأطراف الموقعة على نظام روما الأساسي، المعاهدة التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية في المقام الأول. ومع ذلك، أثار قرار المحكمة التحقيق في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية ردا عنيفا من قادة الكيان. ووصف رئيس وزرائه، بنيامين نتنياهو، التحقيق بأنه “معاداة بحتة للسامية”، وضغْط واسع النطاق لنزع الشرعية عن سلطة المحكمة.
شملت جهود الكيان الصهيوني لترهيب المحكمة الجنائية الدولية ممارسة ضغوط دبلوماسية على الدول الأعضاء في المحكمة، وعلى الحلفاء الدوليين، وشن حملة إعلامية لتصوير المحكمة على أنها منحازة ومقودة بدوافع سياسية. كما فرضت حكومة الكيان قيودًا على تعاون الفلسطينيين مع المحكمة، بما في ذلك اعتقال المسؤولين الفلسطينيين الذين يتعاملون معها.
من المؤكد أن للإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة والكيان لتقويض المحكمة الجنائية الدولية آثار عميقة على صورة وتطبيق القانون الدولي والعدالة. فمن خلال العمل النشط لعرقلة جهود المحكمة لمحاسبة الأفراد على الجرائم الخطيرة، يتحدى هذان البلدان أساس المعايير القانونية الدولية الموضوعة لمنع الإفلات من العقاب.
والعواقب وخيمة بشكل خاص على الشعب الفلسطيني. على المستوى النظري، ينبغي أن توفر لهم تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية سبيلاً محتملاً إلى الانتصاف ومساءلة الكيان عن جرائم الحرب المرتكبة في حقهم. لكنّ أساليب العرقلة والتخويف التي يستخدمها الكيان وتدعمها الولايات المتحدة تعوق إمكانية تحقيق العدالة للضحايا الفلسطينيين.
تستمر الحالة الإنسانية الأوسع نطاقا في فلسطين المحتلة في التدهور وسط الصراع والاحتلال المستمرين. وسوف يديم انعدام المساءلة دورات القمع وانتهاكات حقوق الإنسان، وترك المدنيين الفلسطينيين تحت رحمة مجرمي الحرب المحتلين. وسوف تؤدي الهجمات على المحكمة الجنائية الدولية إلى إحباط العدالة الدولية، وتهيئة مناخ يمكن أن تواصل فيه الدولتان انتهاكاتهما ضد الفلسطينيين بحصانة -وأي شعوب مظلومة في العالم.
يثير العداء الذي أبدته الولايات المتحدة والكيان تجاه المحكمة الجنائية الدولية مخاوف جدية بشأن استمرار تقويض العدالة الدولية. ولا تهدد جهودهما المتضافرة لترهيب المحكمة وتقويضها مبادئ المساءلة وسيادة القانون فحسب؛ إنها تنعكس مباشرة على الوضع الإنساني في فلسطين. وهي تهيء لوجود ترخيص محمي بنفوذ الولايات المتحدة وبلطجة الكيان الصهيوني للاستمرار في جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي تُمارس ضد الفلسطينيين. ويجب على بقية الدول، التي شرعت في التحرر من الأوهام بشأن الطبيعة العدوانية للكيان الصهيوني والولايات المتحدة نفسها أن توفر الحماية والدعم للمحكمة الجنائية الدولية في اتجاه عالم أكثر عدالة وإنسانية.
في جهد مميز لفضح محاولات لتدجين المحكمة الجنائية الدولية وثنيها عن تحريك قضية ضد مجرمي الحرب الصهاينة، اشتركت ثلاث مؤسسات إعلامية: “مجلة 972+”، وموقع “لوكال كول” في فلسطين المحتلة، وصحيفة “الغارديان” البريطانية في إجراء تحقيق كشف الكثير من الحقائق. وخلص التحقيق المشترك إلى أن مسؤولين حكوميين وأمنيين كبارا من الكيان “أشرفوا على عملية مراقبة استمرت تسع سنوات، استهدفت المحكمة الجنائية الدولية وجماعات حقوق الإنسان الفلسطينية، في محاولة لإحباط تحقيق في جرائم حرب”.
وكتب أبراهام يوفال، أحد الصحفيين المشاركين في إعداد التحقيق:
“في الأسبوع الماضي، أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، أنه يسعى إلى الحصول على أوامر اعتقال بحق قادة إسرائيليين ومن حماس في سياق هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) والحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة. وأصدر خان أيضا تحذيرا غامضا: “إنني أُصر على أن جميع محاولات إعاقة أو تخويف أو التأثير بشكل غير لائق على مسؤولي هذه المحكمة يجب أن تتوقف فورا”.
“واليوم، يمكننا أن نكشف عما كان خان يحذر منه: “الحرب” السرية التي تشنها إسرائيل على المحكمة الجنائية الدولية منذ تسع سنوات.
“يكشف هذا التحقيق الرئيسي الذي ننشره اليوم عن المدى الذي ذهبت إليه إسرائيل في محاولة حماية قادتها من المساءلة في لاهاي. ويُظهر تحقيقنا أنه منذ ما يقرب من عقد من الزمن، كانت إسرائيل عاكفة على مراقبة كبار مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية والعاملين الفلسطينيين في مجال حقوق الإنسان كجزء من عملية سرية لإحباط تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في جرائم الحرب المزعومة في الأراضي المحتلة.
“ووفقًا لمصادرنا، فقد حشدت عملية المراقبة أعلى فروع الحكومة الإسرائيلية، ومجتمع الاستخبارات، والأنظمة القانونية المدنية والعسكرية، من أجل عرقلة عمل المحكمة. وتمت إدارة هذه الجهود الخفية من أعلى المستويات، حيث أبدى مسؤولون مثل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اهتماما شخصيا كبيرا بعملية جمع المعلومات الاستخبارية. ويظهر تحقيقنا، والتحرك لإصدار أوامر الاعتقال في المحكمة الجنائية الدولية الأسبوع الماضي، لماذا كان خان على حق في الإعراب عن القلق.
“والآن، يجب على خان معرفة ما إذا كان أي إسرائيلي يقف وراء الجهود السرية الرامية إلى تقويض عمل المحكمة الجنائية الدولية قد ارتكب جرائم ضد إدارة العدالة. وكان قد حذر في إعلانه الصادر في 20 أيار (مايو) من أن مكتبه “لن يتردد في التحرك” ضد التهديدات المستمرة للمحكمة. ومن خلال تسليط الضوء على الحرب السرية التي تخوضها إسرائيل، قد يلعب تحقيقنا دورًا حاسمًا في تحديد خطواته التالية”.
يوفال أبراهام؛ وميرون رابوبورت – (مجلة 972+) 2024/5/28
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
على مدى ما يقرُب من عقد من الزمان، عكفت إسرائيل على مراقبة كبار مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية والعاملين الفلسطينيين في مجال حقوق الإنسان، كجزء من عملية سرية لإحباط تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في جرائم حرب مزعومة، وفقًا لما خلُص إليه تحقيق مشترك أجرته “مجلة 972+” وموقع “لوكال كول” الإسرائيلي وصحيفة “الغارديان” البريطانية.
وشهدت عملية المراقبة متعددة الأجهزة، التي يعود تاريخها إلى العام 2015، قيام مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي بشكل روتيني بمراقبة المدعي العام الحالي للمحكمة، كريم خان، وسلفه المدعية العامة فاتو بنسودا، وعشرات المسؤولين الآخرين في المحكمة الجنائية الدولية والأمم المتحدة. كما راقبت المخابرات الإسرائيلية المواد التي قدمتها “السلطة الفلسطينية” إلى مكتب المدعي العام، وراقبت موظفين في أربع منظمات فلسطينية لحقوق الإنسان كانت التقارير التي تقدمها أساسية لتحقيق المحكمة.
ووفقا للمصادر، حشدت العملية السرية أعلى فروع الحكومة الإسرائيلية، ومجتمع الاستخبارات، والنظامين القانونيين المدني والعسكري، من أجل إخراج التحقيق عن مساره.
تم نقل المعلومات الاستخباراتية التي تم الحصول عليها عن طريق المراقبة إلى فريق سري من كبار المحامين والدبلوماسيين الحكوميين الإسرائيليين، الذين سافروا إلى لاهاي لعقد اجتماعات سرية مع مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية في محاولة “لتغذية [المدعية العامة حينذاك] بمعلومات يمكن أن تجعلها تشك في أساس حقها في التعامل مع هذه المسألة”. كما استخدم الجيش الإسرائيلي المعلومات الاستخباراتية لفتح تحقيقات بأثر رجعي في الحوادث التي تهم المحكمة الجنائية الدولية، في محاولة لإثبات أن النظام القانوني الإسرائيلي قادر على المحاسبة ضمن نظامه القانوني الخاص.
وبالإضافة إلى ذلك، كما ذكرت صحيفة “الغارديان” في 28 أيار (مايو)، أدار الموساد، وكالة الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية، عمليته الموازية الخاصة التي سعَت إلى الحصول على معلومات عن بنسودا وأفراد عائلتها المقربين من أجل مساومتها والضغط عليها، في محاولة واضحة لتخريب تحقيق المحكمة الجنائية الدولية. وحاول الرئيس السابق للموساد، يوسي كوهين، شخصيًا “تجنيد” بنسودا والتلاعب بها واستغلالها للامتثال لرغبات إسرائيل، وفقًا لمصادر مطلعة على أنشطته، مما تسبب في خوف المدعية العامة آنذاك على سلامتها الشخصية.
يعتمد تحقيقنا على مقابلات أجريناها مع أكثر من عشرين من ضباط المخابرات الإسرائيلية الحاليين والسابقين والمسؤولين الحكوميين، والمسؤولين السابقين في المحكمة الجنائية الدولية، والدبلوماسيين، والمحامين المطلعين على قضية المحكمة الجنائية الدولية وجهود إسرائيل لتقويضها. ووفقًا لهذه المصادر، حاولت العملية الإسرائيلية في البداية منع المحكمة من فتح تحقيق جنائي كامل في جرائم الحرب. وبعد بدء تحقيق كامل في العام 2021، سعت إسرائيل إلى ضمان عدم توصله إلى شيء.
بالإضافة إلى ذلك، وفقا لما أفادت به عدة مصادر، تمت إدارة جهود إسرائيل الخفيّة للتدخل في التحقيق – والتي يمكن أن ترقى إلى جرائم ضد إقامة العدل التي يعاقَب عليها بالسجن– من أعلى مستويات الحكومة. وذُكر أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أبدى اهتماما كبيرا بالعملية، حتى أنه أرسل “تعليمات” و”مجالات اهتمام” لفرق الاستخبارات بشأن مراقبتها لمسؤولي المحكمة الجنائية الدولية. وشدد أحد المصادر على أن نتنياهو كان “مهووسا، مهووسا، مهووسا” بمعرفة المواد التي كانت تتلقاها المحكمة الجنائية الدولية.
كان لدى رئيس الوزراء سبب وجيه للقلق: في الأسبوع الذي سبق نشر هذا التقرير، أعلن خان أن مكتبه يسعى إلى الحصول على مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، بالإضافة إلى ثلاثة قادة من الجناحين، السياسي والعسكري، لـ”حماس”، تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية مزعومة ارتكبت في/ أو منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر). وأوضح الإعلان أنه ما يزال من الممكن متابعة إصدار أوامر اعتقال إضافية –تعرض الأفراد الذين تتم ملاحقتهم للاعتقال إذا زاروا أيا من الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، البالغ عددها 124 دولة.
بالنسبة لكبار الضباط في إسرائيل، لم يكن إعلان خان مفاجئا. في الأشهر الأخيرة، “تم تصعيد حملة المراقبة التي تستهدف المدعي العام إلى قمة الأجندة”، وفقا لأحد المصادر، مما زود الحكومة الإسرائيلية بمعرفة مسبقة بنواياه.
وفي ما يقول الكثير، أصدر خان تحذيرا غامضا في تصريحاته: “إنني أُصر على أن جميع محاولات إعاقة أو تخويف أو التأثير بشكل غير لائق على مسؤولي هذه المحكمة يجب أن تتوقف على الفور”. والآن، يمكننا الكشف عن تفاصيل جزء مما كان يحذر منه: “حرب” إسرائيل المستمرة منذ تسع سنوات على المحكمة الجنائية الدولية.
”كانت للجنرالات مصلحة شخصية كبيرة في العملية”
على النقيض من محكمة العدل الدولية التي تتعامل مع قانونية تصرفات الدول –والتي أصدرت أيضًا حكمًا يُنظر إليه على أنه يدعو إسرائيل إلى وقف هجومها على مدينة رفح في أقصى جنوب غزة، في سياق التماس جنوب أفريقيا الذي يتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في القطاع– تتعامل المحكمة الجنائية الدولية مع أفراد محددين يشتبه في ارتكابهم جرائم حرب.
لطالما اعتبرت إسرائيل أن المحكمة الجنائية الدولية ليس لها اختصاص محاكمة القادة الإسرائيليين لأن إسرائيل، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، ليست من بين الدول الموقعة على “نظام روما الأساسي” المنشئ للمحكمة، كما أن فلسطين ليست دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة. ولكن، تم مع ذلك الاعتراف بفلسطين كعضو في المحكمة الجنائية الدولية عند توقيع الاتفاقية في العام 2015، بعد أن كان قد تم قبولها في “الجمعية العامة للأمم المتحدة” كدولة مراقبة غير عضو قبل ذلك بثلاث سنوات.
وفي ذلك الحين، أدان القادة الإسرائيليون انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية باعتباره شكلا من أشكال “الإرهاب الدبلوماسي”. وأوضح مسؤول إسرائيلي: “كان ينظر إليه (الانضمام) على أنه تجاوُز لخط أحمر، وربما الشيء الأكثر عدوانية الذي فعلته السلطة الفلسطينية ضد إسرائيل على الساحة الدولية. إن الاعتراف بكيان كدولة في الأمم المتحدة هو شيء جيد له، لكن المحكمة الجنائية الدولية آلية لها أنياب”.
مباشرة بعد أن أصبحت عضوا في المحكمة، طلبت “السلطة الفلسطينية” من مكتب المدعي العام التحقيق في الجرائم المرتكبة في قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، بدءا من تاريخ قبول دولة فلسطين لاختصاص المحكمة: 13 تموز (يوليو) 2014. ونتيجة لذلك، فتحت فاتو بنسودا، المدعية العامة في ذلك الوقت، تحقيقا أوليًا لتحديد ما إذا كان يمكن استيفاء المعايير لإطلاق تحقيق كامل في الجرائم المزعومة.
وخوفًا من العواقب القانونية والسياسية لمواجهة محاكمات محتملة، سارعت إسرائيل إلى تشكيل فرق استخباراتية من الجيش، والشاباك (المخابرات الداخلية)، والموساد (المخابرات الأجنبية)، إلى جانب فريق سري من المحامين العسكريين والمدنيين، لقيادة الجهود الرامية إلى إحباط قيام المحكمة الجنائية الدولية بإطلاق تحقيق كامل. وتم تنسيق كل هذا تحت إشراف “مجلس الأمن القومي الإسرائيلي”، الذي يستمد سلطته من مكتب رئيس الوزراء مباشرة.
وقال مصدر استخباراتي: “الجميع؛ المؤسسة العسكرية والسياسية بأكملها، كانوا يبحثون عن طرق لإلحاق الضرر بقضية “السلطة الفلسطينية”. الجميع شاركوا: وزارة العدل؛ قسم القانون الدولي العسكري [جزء من مكتب المدعي العام العسكري]؛ الشاباك؛ مجلس الأمن القومي. ونظر [الجميع] إلى المحكمة الجنائية الدولية كشيء مهم للغاية، كحرب ينبغي شنها، وينبغي الدفاع عن إسرائيل ضدها. تم وصف الأمر بمصطلحات عسكرية”.
لم يكن الجيش الإسرائيلي مرشحًا واضحًا للانضمام إلى جهود الشاباك لجمع المعلومات الاستخباراتية، ولكن كان لديه دافع قوي: الحيلولة دون إجبار قادته على مواجهة محاكمات. وكما أوضح أحد المصادر، فإن “الذين أرادوا حقًا [الانضمام إلى الجهد] كانوا جنرالات الجيش الإسرائيلي أنفسهم –كانت لهم مصلحة شخصية كبيرة جدا”. وتذكر مصدر آخر: “قيل لنا أن كبار الضباط أصبحوا يخشون قبول مناصب في الضفة الغربية لأنهم يخشون أن تتم محاكمتهم في لاهاي”.
وفقا للعديد من المصادر، كانت “وزارة الشؤون الاستراتيجية” الإسرائيلية، التي كان هدفها المعلن في ذلك الوقت هو مكافحة “نزع الشرعية” عن إسرائيل، متورطة في مراقبة منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية التي تقدم التقارير للمحكمة الجنائية الدولية. وفي الآونة الأخيرة، وصف جلعاد إردان، رئيس الوزارة في ذلك الوقت وممثل إسرائيل الآن لدى الأمم المتحدة، سعي المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار أوامر اعتقال بحق القادة الإسرائيليين بأنه “مطاردة ساحرات مدفوعة بالكراهية الخالصة لليهود”.
”الجيش تعامل مع أمور غير عسكرية على الإطلاق”
اعتمدت حرب إسرائيل السرية ضد المحكمة الجنائية الدولية بشكل مركزي على المراقبة، وكان المدعون العامون للمحكمة أهدافا رئيسية لها.
وأكدت أربعة مصادر أن الحوارات والتبادلات الخاصة التي أجرتها بنسودا مع مسؤولين فلسطينيين حول قضية السلطة الفلسطينية في لاهاي كانت تخضع للمراقبة بشكل روتيني وتتم مشاركتها على نطاق واسع داخل مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي. وأوضح أحد المصادر أن “المحادثات كانت تدور عادة حول تقدم قضية الاتهام والمحاكمة: تقديم وثائق أو شهادات أو الحديث عن حادث وقع –’هل رأيت كيف ذبحت إسرائيل الفلسطينيين في المظاهرة الأخيرة‘؟– أشياء من هذا القبيل”.
ولم تكن المدعية العامة السابقة الهدف الوحيد. خضع العشرات من المسؤولين الدوليين الآخرين المرتبطين بالتحقيق للمراقبة بالمثل. وقال أحد المصادر أن هناك لوحة بيضاء كبيرة تحمل أسماء نحو 60 شخصًا يخضعون للمراقبة، نصفهم فلسطينيون والنصف الآخر من دول أخرى، بمن فيهم مسؤولون في الأمم المتحدة وموظفو المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
وأشار مصدر آخر إلى فرض مراقبة على الشخص الذي كتب تقرير المحكمة الجنائية الدولية عن حرب إسرائيل على غزة في العام 2014. وقال مصدر ثالث أن المخابرات الإسرائيلية راقبت لجنة تحقيق تابعة لـ”مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في الأراضي المحتلة”، من أجل معرفة المواد التي تتلقاها اللجنة من الفلسطينيين، “لأن نتائج لجان التحقيق من هذا النوع عادة ما تستخدمها المحكمة الجنائية الدولية”.
في لاهاي، تم تنبيه بنسودا وكبار موظفيها بواسطة مستشارين أمنيين وعبر القنوات الدبلوماسية إلى أن إسرائيل تراقب عملهم. ونشأ حرص على عدم مناقشة بعض الأمور بالقرب من الهواتف. وقال مسؤول كبير سابق في المحكمة الجنائية الدولية: “علمنا أنهم كانوا يحاولون الحصول على معلومات حول المكان الذي كنا قد وصلنا إليه في عملية الفحص الأولي”.
ووفقًا للمصادر، وجد البعض في الجيش الإسرائيلي أنه من المثير للجدل أن تتعامل المخابرات العسكرية مع أمور سياسية لا تتعلق مباشرة بالتهديدات الأمنية. وقال أحد المصادر: “تم استخدام موارد الجيش الإسرائيلي لمراقبة فاتو بنسودا –هذا ليس شيئًا مشروعاً لتقوم به استخبارات عسكرية”. وقال مصدر آخر: “كانت هذه المهمة غير عادية حقًا -بمعنى أنها تحدث داخل الجيش، لكنها تتعامل مع أشياء غير عسكرية على الإطلاق”.
لكن آخرين كانوا أقل ترددا. وزعم أحد المصادر، الذي شارك في مراقبة المدعية العامة السابقة: “كانت بنسودا أحادية الجانب جدا جدا. كانت صديقة شخصية للفلسطينيين حقا. لا يتصرف المدعون العامون عادة بهذه الطريقة. إنهم يبقون على مسافة بعيدة جدا”.
”إذا كنتم لا تريدون أن أستخدم القانون، فماذا تريدون أن أستخدم؟”
لأن منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية كثيرا ما كانت تزود مكتب المدعي العام بمواد عن الهجمات الإسرائيلية على الفلسطينيين، وتوضح بالتفصيل الحوادث التي تريد من المدعي العام النظر فيها كجزء من التحقيق، أصبحت هذه المنظمات نفسُها أهدافا رئيسية لعملية المراقبة الإسرائيلية. وهنا، أخذ الشاباك زمام المبادرة.
بالإضافة إلى رصد المواد التي قدمتها “السلطة الفلسطينية” إلى المحكمة الجنائية الدولية، رصدت المخابرات الإسرائيلية أيضا المناشدات والتقارير من جماعات حقوق الإنسان، التي تضمنت شهادات لفلسطينيين عانوا من هجمات المستوطنين والجنود الإسرائيليين. وعندئذ، قامت إسرائيل بمراقبة هؤلاء الشهود بدورهم أيضا.
وأوضح مصدر استخباراتي أن “إحدى [الأولويات] كانت معرفة مَن [في جماعات حقوق الإنسان] الفلسطينية يشارك في جمع الشهادات، ومن هم الأشخاص المحدَّدون –الضحايا الفلسطينيون– الذين يتم إقناعهم بالإدلاء بشهاداتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية”.(يُتبع)
*ساهم هاري ديفيز Harry Davies وبيثان ماكيرنان Bethan McKernan من صحيفة “الغارديان” في هذا التحقيق.
*يوفال أبراهام Yuval Abraham: مخرج أفلام وناشط إسرائيلي مقيم في القدس، من مواليد العام 1995. أمضى سنوات في الكتابة عن الاحتلال الإسرائيلي، معظمه باللغة العبرية. وهو صحفي مستقل يتمتع بخبرة في العمل في أطر تعليمية ومدارس إسرائيلية فلسطينية ثنائية اللغة. درَس اللغة العربية بشكل مكثف ويقوم الآن بتدريسها لمتحدثين آخرين بالعبرية، إيمانًا منه بالكفاح المشترك من أجل العدالة والمجتمع المشترك في إسرائيل وفلسطين.
*ميران رابوبورت Meron Rapoport: إعلامي يعمل محررًا في موقع “لوكال كول” Local Call. حاز على جوائز في الصحافة الاستقصائية، ولديه من الخبرة ما يزيد على 30 سنة في الإعلام الإسرائيلي تولى خلالها منصب مدير الأخبار في صحيفة “هآرتس”. عمل محررا في صحيفة “يديعوت أحرونوت” عندما كانت الصحيفة الأكثر انتشاراً في البلاد. كانت تقاريره الحاسمة محط إعجاب دائم، بما فيها تغطيته الاستقصائية الرائدة لسرقة أشجار الزيتون من أصحابها الفلسطينيين أثناء بناء جدار الفصل، التي فازت بجائزة نابولي الدولية للصحافة. يعتبر رابوبورت ناشطًا سياسيًا مخضرمًا، وهو من مؤسسي حركة “الأرض للجميع” التي تدعو إلى قيام دولتين مستقلتين، دولة إسرائيل ودولة فلسطين، تكون الحدود بينهما مفتوحة، ويتمتع مواطنوهما بحرية الحركة، وتكون بينهما مؤسسات مشتركة.
*نشر هذا التحقيق تحت عنوان: Surveillance and interference: Israel’s covert war on the ICC exposed
- الغد