بالوقفة الكبرى لهم على صعيد جبل عرفات أدى حجاج بيت الله الحرام آخر مناسك هذه الفريضة الدينية المهمة متأسّين في ذلك بالنبي العربي محمد (ص) الذي ألقى منه خطبة الوداع. ذهب الحجيج بعد ذلك إلى مزدلفة في يوم النحر للتلبية والتكبير ورمي الجمرات ثم أقاموا طواف الوداع فأتموا الحج ليستهلوا عيد الأضحى، في العاشر من شهر ذي حجة، الموافق أمس الأحد، ولينضموا في ذلك إلى أمم المسلمين الكثيرة المنتشرة في الأرض.
يستلهم العيد، في أحد وجوهه، قصة النبي إبراهيم الخليل كما وردت في «سورة الصافات» في القرآن الكريم، حين قرر ذبح ابنه امتثالا لأمر الله غير أن ربّه افتداه بأضحية («وفديناه بذبح عظيم»)، وهو ما ربط العيد بهذا، بحيث يتذكر المسلم صبر الخليل وابنه على هذا الامتحان الإلهي الكبير، فيفتدي الآباء أبناءهم بذبيحة عظيمة، ويتمثّل الجميع الحكم الممكن استقاؤها من القصة. هناك بعض الخلاف، مع ذلك، في تفسير الآية حيث يورد ابن كثير أن الابن المقصود هو إسماعيل، ابن هاجر جارية إبراهيم المصرية، في اختلاف مع المرويات اليهودية التي تقول إن الطفل كان اسحق، ابن سارة، والأول، إسماعيل، حسب السرديات المتواشجة بين الدينين، هو أبو العرب، الذين أصبحت غالبيتهم، بعد دعوة الرسول، مسلمين، والثاني، هو أبو القبائل اليهودية، غير أنه نبيّ مبجّل أيضا لدى المسلمين.
يحمل المعتقد الإسلامي في تبجيل النبي إبراهيم وأبنائه اتساعا يشمل اليهودية والمسيحية باعتبارهما من «اهل الكتاب»، ويمكن أن يفسّر، بعد الحدث الإسلامي المؤسس، ما آل إليه حال يهود المنطقة العربية، فقد صاروا جزءا من النسيج الاجتماعي والديني والاقتصادي الناشئ، وانخرطوا في الحضارة العربية – الإسلامية، وكانوا يعملون بالوظائف العامة في الدولة والتجارة والطب، كما ارتبطت مصائرهم بمصائر الأغلبية المسلمة، فاضطهدوا بشدة مثل المسلمين حين جاء الصليبيون، وطردوا من اسبانيا بعد هزيمة المسلمين، فعاد كثير منهم إلى المنطقة العربية وتحولت مناطق الإمبراطورية العثمانية إلى ملاذ لهم، في الوقت الذي كان نظراؤهم الأوروبيون يتعرضون للذبح والنفي والتدمير وصولا إلى حقبة المحرقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
حلّ النظام العالمي الناشئ بعد الحرب الكونية «المسألة اليهودية» بتيسير تسفير اليهود لفلسطين المحتلة من البريطانيين، ثم بإعلان دولة لهم عام 1948، وبذلك تحوّل الشعب الفلسطيني، كلّه، إلى ضحية كبرى لذلك النظام، الذي نشهد، في هذه الأيام، ذروة هائلة لانفجار إشكالياته، فيتعرّض الفلسطينيون إلى إبادة جماعية مبرمجة دمّرت أكثر من نصف البنية التحتية لقطاع غزة، وحوّلت سكانه، الذين كانوا في أكبر سجن في العالم لعشرات السنوات، إلى هدف للذكاء الاصطناعي والقنابل «الذكية» والغبية، فيما تتعزّز أشباح الفاشية والنازية في أوروبا، وتتحدث كندا، عن مخاوفها من إمكان نشوب حرب أهلية عند جارتها الولايات المتحدة الأمريكية، بل إن الأمم المتحدة، التي كانت منظومة المنتصرين في الحرب العالمية، صارت في مرمى هجوم إسرائيل والكونغرس الأمريكي، مع اضطرار كبار المسؤولين الأمميين لتكرار إداناتهم لإسرائيل، واتخاذ محكمتي العدل والجنائية الدوليتين إجراءات شديدة الوطأة على قادة الدولة اليهودية.
أصبحت قضية الشعب الفلسطيني، إلى محرق تتركّز فيه أزمات العالم، حيث نشهد اشكالا من مدّ العنصرية الغربية البذيئة، تتخفّى بشعارات حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، ورفض معاداة السامية، وتحوّل الشعب الفلسطيني إلى أضحية كبرى لمنظومة العالم.
- القدس العربي